👑 الخيانة الكبرى في زمن القيم الزائفة: قراءة نقدية شاملة لـ "اللص والكلاب"
✍️ بقلم: محسن عباس
🎬 مدخل تعريفي
"اللص والكلاب" رواية نجيب محفوظ التي صدرت عام 1961، وتُعد من أبرز أعماله التي جسدت أزمة الإنسان العربي بعد الثورة، حين تحوّلت المبادئ إلى شعارات، والأحلام إلى صفقات. تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي عام 1962 من إخراج كمال الشيخ، وبطولة شكري سرحان (سعيد مهران)، شادية (نور)، كمال الشناوي (رؤوف علوان)، و
- سلوى محمود(نبوية). جاء الفيلم كواحد من أجرأ الأعمال الواقعية والفلسفية في السينما المصرية، مزج بين تيار الوعي الأدبي والأسلوب البوليسي، ليُقدّم مأساة إنسانية تبحث عن العدالة في عالمٍ مقلوب.
🕯️ الخيانة الكبرى في زمن القيم الزائفة
ليست الخيانة أن تُطعن في ظهرك، بل أن تُطعن باسم الفضيلة. أن يُمارس الغدر بلسان الوعظ، وأن يُرتكب الذنب تحت راية الأخلاق. في زمنٍ صار فيه الشرف خطابًا، والضمير شعارًا، صارت الخيانة فعلًا مؤسَّسًا تُغلفه الكلمات اللامعة وتباركه المجتمعات المنافقة. الخيانة الكبرى ليست خيانة جسدٍ أو عهدٍ فحسب، بل خيانة الفكرة، خيانة الوعي، خيانة الإنسان لجوهره حين يبدّل وجهه كلما تبدّل الموقف. في هذا العالم تتساوى المواعظ مع الأكاذيب، ويتحول المثقف من ضميرٍ للناس إلى لسانٍ للسلطة، وتُصبح العاهرة أكثر صدقًا من أصحاب الياقات البيضاء. وهنا يبدأ سؤال نجيب محفوظ الأزلي: من اللص؟ ومن الكلاب؟
⚖️ الخيانات الثلاث... حين انكشفت وجوه الزيف
في عالم اللص والكلاب لا تُقاس الخيانة بجرحٍ واحد، بل بسلسلة من الطعنات التي أصابت الإنسان في وعيه أولًا. كان “سعيد مهران” ضحية ثلاث خيانات كبرى — كل واحدة منها أعمق من الأخرى، وكلها من أقرب الناس إليه.
🧠 أولاً: خيانة المثقف (رؤوف علوان)
كانت الطعنة الأولى والأقسى من رؤوف علوان، المثقف الذي علّمه الحلم، ثم باع الحلم في سوق المناصب. خيانته لم تكن خيانة شخصٍ لصديقه، بل خيانة الفكر لنفسه. حين ذهب إليه سعيد وجده يتحدث عن "الواقعية" و"المرحلة"، مُنكراً دوره السابق في التحريض على السرقات "النبيلة" التي قادته إلى السجن. خيانة رؤوف هي الإعلان عن سقوط المثقف أمام الإغراء السلطوي، وعن تحوّل الكلمة من سلاحٍ للوعي إلى ورقةٍ في يد النظام.
🤝 ثانياً: خيانة الصديق والزوجة (عليش ونبوية)
ثم جاءت خيانة عليش سدرة ونبوية لتُغلق دائرة الألم. الزوجة التي شاركته الفقر، والصديق الذي عاش معه الجوع والخطر، اختارا المصلحة على الذاكرة. بهذا الفعل اكتملت دائرة الانهيار الشخصي، وتحوّل سعيد مهران إلى طيفٍ يطارد العدالة المستحيلة. لم تعد الخيانة مجرد فعل إنساني، بل نظام حياة يبرره الجميع باسم “الواقعية” الجديدة.
💔 ثالثاً: خيانة البراءة والضمير
لم تكتمل دائرة السقوط إلا بنكران ابنته سناء له. هي الخيانة البريئة التي لا تملك تبريراً سياسياً أو مادياً، لكنها الأقسى لأنها خيانة “الدم”. نكران الطفلة يمثل فقدان سعيد لآخر رهان على المستقبل النقي، فيدرك أنه طُرد نهائيًا من عالمه، وأن الطريق إلى الخلاص أُغلق إلى الأبد.
⚠️ مأساة البطل الذي أخطأ الهدف
سعيد مهران في النهاية ليس مجرد صرخة وعي مكسور، بل هو أيضًا ضحية عماه الأخلاقي وغضبه الفردي. على الرغم من عظم الخيانات، فإن سعيد بدأ حياته خارج القانون، مدفوعًا برؤية طبقية لم تكتمل نضجًا. إنه الثائر الذي حمل السلاح قبل أن يحمل الوعي. كل رصاصة أطلقها لم تُصب “الكلاب” المستهدفة، بل أودت بالأبرياء بالخطأ. ومن هنا، تتحول المأساة إلى تجسيد للعبث الوجودي: العنف الفردي، حتى لو كان بدافع نبيل، يصنع ظلماً جديدًا.
🕌 الطريق المهجور: البعد الديني المقهور
وسط هذا الصخب، يظهر الشيخ علي الجنيدي كصوتٍ روحيٍ بديل، يدعو إلى الخلاص بالسلام الداخلي لا بالثأر الخارجي. لكن سعيد لا يسمع. لقد تجاهل سعيد هذا الملاذ، رافضاً نداء الشيخ المتكرر له بالوضوء والقراءة والرضا. هذا الرفض للبديل الديني يؤكد أن نهايته لم تكن مأساة اجتماعية فقط، بل مأساة وجودية لرجلٍ رفض التسامي فاختار الهلاك.
🌹 نور... الصدق العاري وسط الزيف
في قلب هذه العتمة كلها، تشرق نور — العاهرة التي لم تخن أحدًا. لم تَدّعِ الطهر، بل عاشت حقيقتها بصدق، مؤويةً سعيداً دون مقابل أو أقنعة. في حضورها يتجلى نقيض المجتمع بأكمله: هي الخاطئة الطاهرة، وهم الأتقياء الزائفون. نور هي الوجه الإنساني الحقيقي في الرواية — رمز للنقاء العفوي، للحب الذي لا يطلب تبريرًا ولا يخشى نظرة المجتمع.
🔥 العلاقة الجدلية والنهاية المشتعلة (جماليات الرواية والفيلم)
اللص والكلاب ليست حكاية مطاردة، بل اعترافٌ وجوديٌّ بإنسانٍ ضاق بالنفاق. جسّد المخرج كمال الشيخ (1962) هذا الصراع بعبقرية سينمائية، مستخدماً الضوء والظل والمونتاج المتقطع والصوت الداخلي لترجمة تيار الوعي الروائي. لكن العلاقة بين الرواية والفيلم كانت جدلية بسبب اختلاف المصير:
الرواية (الاستسلام): قدمت نهاية فلسفية وعبثية؛ سعيد يُقبض عليه ويبقى حيًّا، مما يؤكد أن الصراع والمعاناة لم ينتهيا، بل تحوّلا إلى سجن داخلي دائم.
الفيلم (الموت): اختار نهاية درامية وإدانة قاطعة؛ قتل البطل على يد الشرطة، في إدانة مباشرة للعنف الفردي، وتضحية بالبعد الفلسفي لصالح الإغلاق الدرامي.
🧩 إرث اللص والكلاب في الوعي العربي الحديث
بعد أكثر من ستين عامًا على صدور الرواية، ما زال اللص والكلاب عملًا حيًّا لا يشيخ، لأن سؤال الخيانة لم يفقد راهنيته. تغيّرت الأسماء والوجوه، لكن رؤوف علوان ما زال حاضراً في كل مثقف يبيع وعيه للسلطة، ونبوية في كل من يساوم على الحب من أجل المصلحة، وسعيد مهران في كل إنسانٍ يصرخ في وجه الزيف ثم يُدان لأنه صدق أكثر مما يجب. لقد أصبحت الرواية مرآة مفتوحة على الحاضر: في زمنٍ تماهى فيه الإعلام مع الدعاية، والمثقف مع الممول، تتكرر مأساة “اللص الشريف” الذي تبتلعه الكلاب كل يوم. وربما لم يكن محفوظ يكتب عن زمنه فقط، بل عن كل زمنٍ تُستبدل فيه القيم باللافتات، ويُدان فيه الصادق لأنه لا يجيد الكذب.
🕳️ رسالة سعيد الأخيرة إلى العالم
“لم أكن لصًا… كنت أبحث عن حقي بين الذئاب، لكنهم جميعًا نبحوا، حتى الذين علّموني النباح.” بهذه الصرخة يختتم محفوظ ملحمته — لا كقصة عن مجرم، بل كمرثية لإنسانٍ صدّق القيم، فخانته القيم ذاتها. وما زال السؤال يطاردنا حتى الآن: هل مات سعيد مهران، أم أنه يعيش فينا كل يوم؟


0 التعليقات