وهم اليقين: حين نتحمل مسؤولية التيه

 

وهم اليقين: حين نتحمل مسؤولية التيه

==========



نحن من تغيّر: عن أوهام الأمس وحقائق اليوم

العالم لم يتغير في جوهره، بل نحن من تغيرنا بعد أن تركنا الأوهام والعواطف في الأمور العامة.

إن القرآن الكريم يحدثنا عن أئمة الشر في كل شيء، لدرجة ادعاء الألوهية، ولكننا لم نعي أنها طبائع متأصلة في النفس البشرية. الشر ليس كيانًا منفصلاً بالضرورة، بل هو تجسد لصفات سلبية متأصلة في طبيعتنا البشرية مثل حب التسلط، الأنانية، الجشع، والكبر. عندما لا يتم تهذيب هذه الصفات، يمكن أن تتجلى في سلوكيات فردية وجماعية تؤدي إلى الظلم والتلاعب.

انظر إلى أي مكان في العالم، سنجد الأشرار هم من يحكمون، ولكنهم يخدرون العامة بكلمات فقط. في العصور السحيقة، كان الكهنة هم حاشية الحاكم وأدواته، وكانت لهم لغة خاصة أقرب إلى الطلاسم. أما الآن، فقد أصبح هؤلاء الكهنة طبقة النخبة والمثقفين، وأيضًا أصبحت لهم لغة خاصة بها "مخدرات لغوية" مثل الحرية، حقوق الإنسان، والإرادة الحرة، وعلوم كثيرة بلا طائل. هذه المفاهيم النبيلة تُستخدم لتغطية ممارسات سلبية؛ فمثلًا، قد يُستخدم مصطلح "الديمقراطية" لتبرير التدخل العسكري الخارجي بينما الهدف الحقيقي هو السيطرة على الموارد، أو يُرفع شعار "حقوق الإنسان" في قضية معينة مع غض الطرف عن انتهاكات مماثلة في قضايا أخرى تخدم مصالح القوى المهيمنة.

الكهنة سابقًا والنخبة حاليًا لديهم قناعة تصل إلى اليقين بأنهم يعرفون مصالح العامة أكثر من أنفسهم، وأنه لا بد أن يطيعوا وفقط. وإلا، فالقتل والسجن والحرمان من "جنة هؤلاء" هو المصير. هذه الفئات غالبًا ما تستغل حاجة الإنسان الفطرية للتوجيه أو الانتماء، وتقدم نفسها كـ "المنقذ" أو "العارف" الذي يملك الحقيقة. إن "النخبة" لا تقتصر على السياسيين أو المفكرين فحسب، بل يمكن أن تشمل أيضًا نجوم الإعلام، المؤثرين الرقميين، أو حتى بعض الرموز الدينية التي تُستخدم لتوجيه الرأي العام.


تأملات في طبيعة السلطة والوعي الفردي

فكرتي ليست عن العالم الثالث فقط، بل عن العالم كله، شرقه وغربه، شماله وجنوبه. إن ما نراه ليس استثناءً، بل هو نمط متكرر في تاريخ البشرية.

الخلاصة مما كتبت آنفًا، هي دعوة للوعي العميق: لا تسلم نفسك لأشخاص أو أفكار عاطفيًا تحت وهم أنه يقول كلمات معسولة أو أفكارًا مستحيل تطبيقها. وإلا، أصبحت أنت الجاني الحقيقي وليس الأشرار. هذه النقطة تدعونا إلى تحويل التركيز من لوم الآخرين إلى تحمل المسؤولية الذاتية. الوهم بأن شخصًا ما أو فكرة ما ستحل جميع مشاكلنا دون جهد منا هو عمود يستند عليه "الأشرار" للحفاظ على سلطتهم.

هذا ما تعلمنا إياه آيات القرآن الكريم، وما ينبهنا إليه المنطق السليم. فكما قال الشيطان لما قضي الأمر:

﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

هذه الآية الكريمة تلخص المفهوم الأساسي: المسؤولية تقع على عاتق من يستجيب. فالأشرار يدعون ويُزينون، ولكن الاستجابة والاتباع هما قرار شخصي. التحرر من الأوهام والعواطف يعني امتلاك القدرة على التمييز، والاعتماد على المنطق والفطرة السليمة، لا الانجراف وراء كل خطاب رنان.


ماذا يمكن أن نفعل؟ طريق الوعي والأمل

بناءً على هذا الفهم، يمكننا أن نركز على بناء الوعي النقدي وتشجيع التفكير المستقل. الوعي النقدي ليس مجرد معرفة المعلومات، بل هو القدرة على معالجتها، ربطها بالسياق، وتحديد مدى صدقها وموضوعيتها. علينا أن نعمل على إعادة تعريف المصطلحات واستعادة المعاني الحقيقية للمفاهيم الإنسانية والاجتماعية النبيلة التي تم تزييفها. إنها معركة وعي قبل أن تكون معركة قوة.

على الرغم من النبرة التي قد تبدو متشائمة في وصف الواقع، إلا أن هذا التحليل يحمل في طياته دعوة قوية للأمل والتمكين الفردي. فبمجرد أن نعي حقيقة الأمر وأن المشكلة في "تغيرنا نحن"، يصبح الطريق مفتوحًا لإعادة البناء. يمكن أن يتمثل هذا في التعليم المستنير، النقاشات الهادفة، بناء مجتمعات صغيرة واعية، والتركيز على القيم الحقيقية بدلاً من الانجراف وراء الشعارات.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.