النقد السينمائي والسياسة: عندما تتحول الصورة إلى قوة ناعمة
من الظلم البين أن تُختزل الأفلام السينمائية في جمال الصورة أو قبحها، أو في حبكة مذهلة أو مفككة، دون الولوج إلى أعماق الأفكار المنثورة بعناية داخل السيناريو.
فالسينما ليست مجرد ترفٍ بصري، بل هي حقلٌ للفكر، ومساحةٌ لقراءة الواقع من زوايا غير مباشرة.
قبل الحديث عن النقد السينمائي وعلاقته بالسياسة، لا بد من التوقف أمام مصطلح "القوة الناعمة"، الذي تمثل السينما أحد أهم قلاعه.
فالقوة الناعمة، كما صاغها جوزيف ناي من جامعة هارفارد، هي القدرة على الجذب والإقناع دون إكراهٍ أو استخدامٍ للقوة المادية.
إنها وسيلة التأثير عبر الجاذبية الثقافية والفكرية، لا عبر التهديد أو الهيمنة.
وقد أصبحت في عصرنا أداةً فعّالة لتغيير الرأي العام والتأثير على الوعي الجمعي من خلال الثقافة، والفن، ووسائل الإعلام.
فالدولة التي تملك فنًّا قويًا، تمتلك خطابًا عالميًا ناعمًا، قادرًا على تشكيل العقول دون ضجيج.
أما السينما، فهي المرآة التي تعكس روح المجتمعات، والمصنع الذي تُصاغ فيه الأحلام والأفكار والمواقف.
هي الفن السابع الذي جمع الصوت بالصورة ليعيد بناء الواقع أو تخيّله من جديد، سواء من خلال الدراما الخيالية أو الوثائقية أو حتى الرمزية الفلسفية.
أما النقد السينمائي، فهو الوجه الآخر للفن.
هو عملية تحليل وتذوق وتفكيك للمشهد، بحثًا عن الفكرة التي أراد صُنّاع الفيلم إيصالها، وعن الرسائل التي تسللت إلى الوعي الجمعي بوعيٍ أو بغير وعي.
النقد الحقيقي ليس مدحًا أو ذمًّا، بل إضاءة للنص البصري، ومحاولة لاكتشاف ما وراء الكادر.
الناقد السينمائي الواعي لا يقف عند الإخراج أو الأداء أو الموسيقى التصويرية، بل يربط بين المشهد وبين لحظته التاريخية والسياسية والاجتماعية.
فليس بالضرورة أن يكون الفيلم سياسيًا في ظاهره، لكن مشهدًا واحدًا قد يحمل دلالات سياسية عميقة، تكشف عن رؤية أو موقف أو تحذير.
وهنا تتجلى قيمة النقد كأداة لقراءة الوعي الجمعي وفهم الرسائل المبطنة التي تصنعها السينما.
لقد تحولت السينما إلى أداة بالغة الخطورة — لا في صناعة الترفيه فقط — بل في صناعة الوعي نفسه، سلبًا أو إيجابًا.
ومن هنا تأتي أهمية دور الناقد في كشف النوايا المضمرة داخل الصورة، وتحليل أثرها على الجمهور الذي يتلقّى المشهد ويخزنه في وعيه دون مقاومة.
أفلام مثل كشف المستور، الهروب، البداية، سواق الأتوبيس، ثرثرة فوق النيل، الزوجة الثانية، شيء من الخوف، وأفلام عالمية مثل مباريات الجوع، المتسلل ليلاً، شفرة المصدر — كلها نماذج لأعمال تحمل رسائل فكرية وسياسية عميقة تستحق التأمل.
فالسينما لم تعد مجرد شاشة للعرض،
بل ساحة للوعي، وأداة للهيمنة أو للتحرر،
وهنا تبدأ مهمة الناقد الحقيقي:
أن يُضيء ما خفي، ويوقظ ما خُدّر،
ويمنح الصورة معناها الأعمق قبل أن تمرّ مرور العابرين. 🎥
خلاصة الرأي
النقد السينمائي ليس وصفًا للفيلم، بل قراءة للعقل الذي صنعه والوعي الذي يستقبله.
إنه الجسر بين الصورة والمعنى، بين الفن والسياسة، بين المتعة والمسؤولية.
وحين يدرك الناقد أن كل مشهد هو فكرة، وكل فكرة موقف، يتحول النقد من انطباعٍ عابر إلى وعيٍ يشارك في تشكيل المستقبل. 🌿

0 التعليقات