يبدو للوهلة الأولى الصراع السياسي الدموي في الشرق الأوسط صراعًا على الأرض، وهو ظن لا يستطيع الوقوف طويلًا أمام معطيات العقل؛ حيث إن اتفاقية سايكس - بيكو حسمت الصراع على الأرض، بالإضافة إلى وعد بلفور المشئوم وإنشاء الكيان الصهيوني المعادي.
إذن، الصراع أصبح على الإنسان وهوايته الدينية، خاصة الإسلامية، ومن ثم أصبح الصراع الحقيقي مع الإسلام الحقيقي النابع من الوحي المرسل إلى خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، سواء القرآن الكريم والسنة المطهرة.
مصر حاضنة الإسلام. لذا، تم التركيز على نسف تلك الحاضنة بضربات شديدة القوة وبمكر ودهاء شديد. لأن نسف الإسلام القيمي جعل كل الفساد والإفساد له مسميات رشيقة مستساغة على الأذن الضالة المضللة.
وكانت أولى تلك الضربات الموجعة: انتفاء المرجعية في مصر بسبب الضربات للأئمة العظام، سواء بسيف المعز أو ذهبه، ولنا في خروج الشيخ القرضاوي والشيخ الشعراوي والشيخ محمد الغزالي من مصر أمثلة. بعد خروج هؤلاء وغيرهم، أصبح هناك ما يسمى الإسلام الشعبوي، أو للدقة التفسير الشعبوي للإسلام، وهو التركيز على كل ما هو طقوسي وشعائري والبعد عن الإسلام القيمي الذي يحث على بناء الإنسان الصالح لنفسه ولدينه ولوطنه؛ وذلك حتى يسهل بناء الإنسان الفاسد المفسد الضال المضل الذي يسهل قيادته في أي اتجاه. إن غياب مرجعية راسخة يؤدي بالشباب إلى البحث عن إجابات جاهزة وسريعة عبر وسائل غير موثوقة، مما يجعلهم عرضة للتأثر بالخطابات الشعبوية أو حتى المتطرفة التي تستغل عواطفهم دون تقديم فهم عميق لقيم الإسلام.
ثاني الضربات الموجعة: قانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها، وهي الضربة التي قسمت ظهر البعير؛ حيث إن الأزهر هو المرجعية الحقيقية لأهل السنة في العالم. إن إضعاف استقلالية الأزهر من خلال قوانين إعادة التنظيم قد يقلل من قدرته على إصدار فتاوى مستقلة ومواجهة الأفكار المنحرفة، مما يخلق فراغًا تستغله التفسيرات الشعبوية غير المؤصلة.
ثالث الضربات الموجعة: إعلاء شأن كل ما هو غير ديني في كل المجالات الفنية والثقافية لدرجة التقديس، والتحقير من كل ما هو ديني، سواء على مستوى الأعمال الفنية أو في الحياة العامة. ولنا في الأفلام والمسلسلات والبرامج مثال لا يخفى على أحد. يقع على عاتق النظام التعليمي مسؤولية كبرى في غرس الفهم الصحيح لقيم الإسلام السمحة والمعتدلة في نفوس النشء، وتمكينهم من التفكير النقدي ومواجهة الأفكار الهدامة.
إن الإسلام القيمي، كما أراه، يركز على جوهر التعاليم الإسلامية التي تدعو إلى العدل الاجتماعي، والتسامح الديني، والسعي للعلم والمعرفة، وبناء مجتمع قوي ومتكافل، وهو ما يختلف عن اختزال الدين في أداء بعض الطقوس دون فهم أبعادها الأخلاقية والاجتماعية. لا يعفي غياب المرجعية الفرد من مسؤوليته في طلب العلم والتحري عن الحقائق الدينية من مصادر موثوقة، وعدم الانسياق وراء كل ناعق دون تمحيص وتدبر. قد تكون هناك قوى تسعى لإضعاف المرجعية الإسلامية المستقلة في مصر بهدف تسهيل تمرير أجندات معينة أو خلق حالة من الفوضى الفكرية والروحية. وعندما يقتصر فهم الإسلام على الشعائر دون تعميق قيمه الأخلاقية، يصبح الأفراد أكثر عرضة للتلاعب العاطفي والقبول بأفكار سطحية أو حتى متطرفة.
إن الحديث ذو شجون وطويل، ولا يكفي مقال واحد للإحاطة به. سنكتفي الآن بهذا لعدم الإطالة والملل الذي يمكن أن يصيب البعض. إن ما يحدث في مصر له تأثيرات إقليمية ودولية أوسع، وقد تستفيد قوى خارجية من إضعاف المرجعية الإسلامية في المنطقة لتحقيق مصالحها. تلعب التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في نشر "الإسلام الشعبوي" أو الخطابات المتطرفة، ولكن يمكن أيضًا استخدام هذه الأدوات بشكل إيجابي لتعزيز الفهم الصحيح للدين. يشهد العالم الإسلامي حراكًا دينيًا متنوعًا، ومن المهم أن يركز "الإحياء الديني" على الجوانب القيمية والأخلاقية للإسلام لبناء مجتمعات قوية ومستنيرة. يتميز الإسلام بتنوع فكري وتاريخي ثري، ويجب التأكيد على أن "الإسلام القيمي" لا يتعارض مع التعبير عن التدين بطرق متنوعة طالما أنها لا تخالف الأصول والثوابت.
تعريف المصطلحات:
الشعبوية: يمكن تعريفها كإيديولوجية، أو فلسفة سياسية، أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير بالحجاج الجماهيري لتحييد القوى العكسية. حيث يعتمد بعض المسؤولين على الشعبوية لكسب تأييد الناس والمجتمعات لما ينفذونه أو يعلنونه من السياسات، وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم
اتفاقية سايكس بيكو عام 1916: كانت تفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الامبراطورية العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأولى.
وعد بلفور أو تصريح بلفور: (إنجليزية: Balfour Declaration) هو الاسم الشائع المطلق على الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور بتاريخ 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر