ولاد رزق 3: القاضية
عندما تلامس السينما سقف الأحلام… وتفضح الوهم الطبقي بلا شعارات
بقلم: محسن عباس
هل يمكن لابن الهامش أن يعبر السقف الطبقي؟ أم أن كل صعود ليس سوى إعادة تموضع داخل القفص نفسه؟
السينما كأداة كشف لا كزينة
منذ المشهد الأول، يضعنا الفيلم داخل عالم مصقول تقنيًا، لكنه غير بريء دلاليًا. فالفخامة البصرية هنا ليست غاية في ذاتها، بل فخًّا دراميًا؛ كلما ازداد الانبهار، تكشّف تحته منطق السيطرة القديمة نفسها.
الفيلم واعٍ تمامًا بأنه يخاطب جمهورًا اعتاد طويلًا سينما “الهروب من الواقع”، فاختار أن يمنحه المتعة أولًا… ثم يسحب البساط من تحت قدميه بهدوء محسوب.
إخراج طارق العريان: هندسة الإبهار
طارق العريان لا يقدّم أكشنًا تقليديًا، بل هندسة بصرية مكتملة.
حركة الكاميرا ليست استعراضًا، بل تعبير عن اضطراب الشخصيات.
والمطاردات ليست مجرد ملاحقات، بل صراع على مساحة، وعلى موقع، وعلى اعتراف.
حتى اختيار الرياض مسرحًا للأحداث لم يكن محايدًا؛ مدينة فائقة الحداثة، باردة، صلبة، تشبه تمامًا العالم الذي يحاول “ولاد رزق” اقتحامه… ويُرفضون فيه.
العريان نجح في تقديم فيلم لو جُرّد من لغته العربية، لما بدا غريبًا في أي محفل عالمي، دون أن يفقد جذره المحلي أو نبرته المصرية.
أحمد عز: بطل بلا بطولة
في قلب العمل، يقف أحمد عز وقد بلغ مرحلة نضج فني لافت.
لا نرى هنا نجمًا يستعرض حضوره، بل ممثلًا يكبح نجوميته لصالح الشخصية.
“رضا رزق” لم يعد الخارج عن القانون بصورته النمطية، بل رجلًا يكتشف متأخرًا أن الذكاء وحده لا يكفي، وأن القوة لا تفتح الأبواب المغلقة طبقيًا.
أداء عز قائم على الاقتصاد:
نظرة أطول مما ينبغي، صمت في موضع كان يمكن ملؤه بحوار، وانكسار داخلي لا يُصرَّح به.
وهنا، تحديدًا، تكمن قوته الحقيقية.
طقم التمثيل: حين يتحوّل الجماعي إلى قيمة
لم يكن الفيلم ليصل إلى هذه الكثافة لولا أداء جماعي منضبط:
-
أحمد الرافعي
قدّم واحدًا من أكثر الأدوار برودًا وخطورة في السينما التجارية مؤخرًا؛ سلطة ناعمة تمارس عنفها بابتسامة. -
علي صبحي
كان المفاجأة الأجمل؛ شخصية حقيقية، لحم ودم، بلا كليشيه. نجح بلكنته وأدائه المتماسك في تخفيف حدّة العالم، دون أن يفرغه من قسوته.
أما بقية الفريق، فالتزموا جميعًا بإيقاع واحد، بلا نشاز أو مبالغة، وهو ما يُحسب للمخرج ولجميع الفنانين، خلف الكاميرا وأمامها.
الموسيقى، المونتاج، والصوت: لغة موازية
الموسيقى التصويرية لا تشرح المشاعر، بل تلمّح إليها.
هندسة الصوت تنقل العنف دون تمجيده.
والمونتاج، رغم سرعته، يعرف متى يتباطأ ليترك للفكرة أن تتسلل.
كل عنصر فني يؤدي وظيفة محددة، بلا استعراض أو ادّعاء، وهو ما يعكس جهدًا جبارًا لفنيين قدّموا عملًا يلامس الكمال التقني.
وهم الصعود: من “مصر” إلى “إيچيبت”
هنا يكمن القلب الفلسفي للفيلم.
“ولاد رزق” ظنّوا أن المال كافٍ لتغيير الانتماء، وأن البدلة قادرة على محو الحارة.
لكن الفيلم يقول بوضوح موجع:
الطبقة ليست مظهرًا، بل قرارًا سياديًا لا يُمنح إلا لأصحابه.
مهما صعدوا، ظلّوا أدوات تنفيذ.
ومهما قاتلوا، حصد غيرهم الثمار.
الصفقة الأخيرة (الساعة) ليست نهاية، بل إعادة تثبيت صارمة للنظام الطبقي.
الشايب: الهروب المستحيل
شخصية “الشايب” ليست هامشية، بل مرآة.
انسحابه إلى الكارفان ليس عزلة اختيارية، بل اعترافًا ضمنيًا بالفشل في الانتماء إلى أي عالم؛ لا هو من الحارة، ولا من النخبة.
وحين تحاصره السينما داخل قالب “البلطجي الشيك”، فإنها تؤكد أن الهروب من التصنيف مستحيل داخل منظومة مريضة.
كلمة أخيرة
ولاد رزق 3: القاضية ليس فيلم عصابات، ولا استعراض ميزانية، ولا احتفالًا بالبلطجة.
إنه فيلم عن الوهم:
وهم الصعود، وهم القوة، ووهم الانتصار الفردي داخل مجتمع مغلق طبقيًا.
عمل يثبت أن السينما المصرية قادرة على الإبهار،
وقادرة – إن أرادت – على قول الحقيقة…
حتى لو قالتها وسط الرصاص.


0 التعليقات