تشريح الكراهية

 

تشريح الكراهية

من الغريزة إلى الجريمة… 

ومن الكبت إلى العفن الأخلاقي



أولاً: الكراهية كقوة دفع أولية

يُخطئ من يظن أن الحب هو القوة المؤسسة للحياة. هذا الاعتقاد ليس سوى وهم رومانسي متأخر، نشأ بعد أن استقرت المجتمعات واحتاجت إلى تزيين صراعاتها بخطاب ناعم.

الحب يأتي لاحقًا، بعد أن تتشكل «الأنا».
أما الكراهية – بمعناها الوجودي لا الأخلاقي – فهي الفعل الأول: لحظة الرفض، لحظة رسم الحدود، لحظة الإعلان الحاسم: أنا لست أنت.

نحن لا نولد ذواتًا، بل نصبحها عبر الصدام.
والكراهية هنا ليست انحرافًا أخلاقيًا، بل آلية بقاء، وحقًا بيولوجيًا ونفسيًا في التمايز.
المأساة لا تبدأ عند الشعور بالكراهية، بل عند إنكارها، وعند محاولة تجميلها أو دفنها تحت خطابات زائفة عن التسامح والمحبة الكونية.


ثانيًا: الكبت… حين تتحول الكراهية إلى سم

الإنسان الصادق يقول بلا مواربة:
«أنا أكرهك لأنك تهدد صورتي، أو امتيازي، أو وهمي عن نفسي».

لكن الإنسان الحديث لا يحتمل هذه الجملة.
لأنها مكلفة.
لأن الصدق يتطلب شجاعة، والشجاعة عملة نادرة في زمن الاستعراض الأخلاقي.

فيتم الكبت.
والكبت لا يُطفئ المشاعر، بل يعفّنها.
يحوّل الكراهية من موقف واعٍ إلى طاقة مظلمة تعمل في الخفاء، وتبحث عن مخرج قذر.

هنا تولد الشخصية المنافقة:
تتحدث عن القيم، وتمارس الحقد.
ترفع شعارات الفضيلة، وتغرق حتى العنق في الوحل.


ثالثًا: الإسقاط… آلية القذرين

حين يعجز الإنسان عن مواجهة قبحه، يلجأ إلى أخطر حيلة نفسية: الإسقاط.
ينقل ما يكرهه في ذاته إلى الآخر، ثم يبدأ في مطاردته أخلاقيًا.

المثل الشعبي:
«كلم القحبة تلهيك واللي فيها تجيبُه فيك»
ليس فجاجة لغوية، بل تشريح بالغ الدقة للعقل المريض.

فالشتيمة هنا ليست توصيفًا للآخر، بل اعترافًا غير واعٍ بالذات.
الإسقاط هو اللحظة التي يتحول فيها الجاني إلى واعظ،
والحاقد إلى ضحية،
والكاذب إلى قاضٍ أخلاقي.


رابعًا: الثالوث المظلم… حين تفشل اللغة الإنسانية

عندما تُمنع الكراهية من التعبير الصريح، تبحث عن لغات بديلة، وغالبًا ما تكون لغات مرضية.

السيكوباتية
ليست انعدام مشاعر، بل إعلان حرب على الضمير.
كراهية عميقة لفكرة المحاسبة ذاتها.
هنا يصبح الإنسان مشروع منفعة، ويصير الآخر مجرد أداة.

السادية والمازوخية
هما السياسة وقد نزلت إلى الجسد.
السادي يكره ضعفه فيصنع لنفسه قوة وهمية عبر تعذيب غيره،
والمازوخي يكره ذاته حد التواطؤ مع من يؤذيه.

كلاهما فشل في قول جملة بسيطة:
أنا غاضب… أنا أكره… أنا مهدد.


خامسًا: الكراهية كمنتج سياسي

في زمن الانهيارات الكبرى، كما يشير حازم صاغية، لا تولد الكراهية من فرد واحد، بل من منظومة كاملة.
نحن نعيش عصرًا انتقاليًا هشًا، تنهار فيه السرديات الكبرى، ولا يظهر بديل ناضج.

في هذا الفراغ، تصبح الكراهية هوية.
نحن لا نعرف من نكون، لكننا نعرف من نكره.

الاقتصاد يغذّيها،
والسياسة تستثمرها،
والإعلام يحولها إلى عرض يومي.

فتتحول الكراهية إلى دين بلا إله:
طقوسه الشتائم،
كهنته المحللون،
ونصوصه المقدسة منشورات الغضب.


الخاتمة: نحو كراهية واعية

الخطر الحقيقي ليس في الكراهية، بل في كذبنا بشأنها.
الشفافية ليست فضيلة أخلاقية، بل ضرورة نفسية للبقاء سليمين.

أن تقول: أنا أكره
أفضل ألف مرة من أن تقول: أنا أنقى من الكراهية.

الاعتراف لا يبرئ، لكنه يحرر.
يفكك العفن قبل أن يتحول إلى وباء.

كلنا نحمل وحشًا صغيرًا في الداخل.
لكن الفارق بين الإنسان والمجرم
أن الأول ينظر إليه،
والثاني يطلقه على الآخرين.

إن مجتمعاتنا لا تنهار بسبب نقص الحب،
بل بسبب تخمة الكذب.
نحن غارقون في «لطف سام» يخفي تحته محيطات من الغِلّ.

الشفافية هي الفعل الثوري الأخير المتبقي:
أن تكره بوضوح، خير لك من أن تحب بنفاق؛
فالأولى تحافظ على إنسانيتك،
والثانية تمسخك إلى كائن سيكوباتي
يقتات على تشويه الآخرين
ليواري سوأة نفسه.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.