- المزايدة: سجن الأفكار الأحادية ونداء إلى التواضع الفكري
داء المزايدة: حين يمتلك البعض الحقيقة المطلقة ويُعمي التعصب البصيرة
المزايدة شيء مقيت، وسببها عجز عن تذوق المعاني العميقة الراقدة بين السطور، تلك التي لا تبوح بها الحروف صراحة، بل تستشعرها القلوب الواعية. غالبًا ما ينبع هذا العجز من ضيق الأفق الفكري والكسل عن بذل الجهد في فهم وجهات نظر مختلفة، أو ربما من انشغال بالسطحيات وقشور الأمور.
لا ترقص على أنغام موسيقى الآخرين، بل أطلق إبداعك الخاص، نغمًا فريدًا لذاتك.
الأسئلة هي مفاتيح الصندوق المغلق على الأفهام، بينما الإجابات الجاهزة غالبًا ما تكون مجرد قشور سطحية. فكيف لنا أن نصوغ سؤالًا حقيقيًا في أي أمر؟ عبر الغوص في أعماق الموضوع، واستكشاف الزوايا الخفية، والتفكير النقدي المتجرد.
إن الهروب من الخداع البصري السهل يكمن في إدراك حدود الحواس، أما التحرر من الخداع العقلي الأكثر خبثًا، فيتحقق عبر الأسئلة المنطقية المنبثقة عن تفكير عميق فيما يُعرض علينا وما يختبئ خلفه. فألعن من تضليل البصر هو تزييف العقل الناتج عن تصورات ذهنية راسخة وتحيزات دفينة.
تذكر دائمًا: ليس كل ما تراه العين وتسمعه الأذن حقيقة مطلقة، فالحواس قد تخون، والعقل قد يتوهم. لذا، يصبح البحث المضني عن الحقيقة تحديًا مضاعفًا في خضم تسونامي المعلومات المتدفقة بغزارة في عالمنا المعاصر.
وفي أوقات السيولة الفكرية والضبابية المعرفية، تصبح الأفكار المنتشرة الأقرب للتطرف بمثابة رد فعل دفاعي غريزي، محاولة يائسة لترسيخ هوية مهتزة. غالبًا ما تكون المزايدة نابعة من خوف دفين من فقدان الهوية أو الانتماء، أو ربما هي محاولة لتعويض ضعف داخلي عبر التمسك برأي قاطع. فالمزايد دومًا يرى نفسه حارسًا أمينًا للحقيقة، وكل من يجرؤ على مخالفته يتحول في نظره إلى خصم لدود يسعى إلى تحطيم يقينه.
والمثير للشفقة أن المزايد يرى في كل اختلاف مؤامرة مُحكمة تستهدف معتقداته الراسخة، حتى لو كانت مجرد كلمة عابرة لا تحمل أي نية خبيثة. والسبب؟ أنه في قرارة نفسه غير واثق تمامًا مما يزايد عليه. إنه أسير اللحظة الراهنة، لا يرى إلا الصورة الآنية الضيقة، ويتجاهل الرؤية الشاملة خوفًا من أن يفقد حشود المصفقين والمؤيدين له.
إن المزايد أسير عيون أفكاره المتطرفة التي تحجب عنه جمال الكون واتساعه، وينسى مع مرور الوقت السنن الكونية التي أرسى قواعدها خالق الكون، القاضي بالاختلاف والتنوع: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾. إن لغة المزايد غالبًا ما تتسم بالقطع والجزم، واستخدام الأحكام المطلقة، والتكرار المفرط للآراء، وقلة الإصغاء للطرف الآخر.
إنه يعتنق البوشية دون وعي، شعار "من ليس معنا فهو ضدنا"، متجاهلًا أن الأصل في الحياة هو الاختلاف الثري الصحي الذي يغذي العقول ويثري النقاش. فالمزايد غالبًا ما يكون غير قارئ نهم، غير ملم بالأحداث الإقليمية والدولية بعمق، وكارهًا للفلسفة التي تعلمه التفكير النقدي وتوسيع الآفاق. إنه فقير فكريًا، ضعيف في الاستقراء والقراءة المتأنية للواقع، ويحتمي بالأمنيات والأحلام بدلًا من التحليل الموضوعي. تتجلى المزايدة في صور متعددة، سواء في التعصب السياسي الأعمى، أو التزمت الديني الجامد، أو حتى في النقاشات الاجتماعية والفنية الضيقة.
هذا المزايد المتعصب يسعى لأن يكون قائدًا على أنقاض الآخرين، دون أن يمتلك أدنى صفات القيادة الحقيقية، تمامًا كفئات ظهرت في الماضي القريب. بينما الإبداع الحقيقي يزدهر في المنطقة الدقيقة بين التبسيط المخل والتعقيد المميت.
قد تبدو الميزانية هي الشكل النهائي للنجاح، لكن الأهم هو حساب المتاجرة الحقيقي وتقدير العائد الفعلي لا الأرقام المجردة. وأما أن يقفلوا علينا أبواب الفن الرفيع بحجة "الخيال" و"عدم الواقعية"، فهذا قمة الجهل وضيق الأفق! قضيتي الحقيقية هي الإنسان، ومعركتي الأبدية هي الوعي. إن رفض الخيال في الفن يشبه رفض النظر إلى ما وراء الظاهر، وعدم القدرة على فهم الرموز والمعاني العميقة.
نقص الحب الحقيقي، نقص التعاطف وفهم الآخر، هو السبب الجذري لداء المزايدة والتعصب الأعمى. فالمحب الحقيقي يسعى للفهم لا للإدانة، ويستمع بقلبه قبل أذنه، ويدرك أن الحقيقة ليست حكرًا على أحد، بل هي رحلة استكشاف مشتركة. أما المزايد، فقلبه ضيق لا يتسع إلا لصوته، وعقله مغلق لا يرى إلا ما يوافق هواه. إن بناء جيل قادر على تجنب المزايدة يبدأ بالتربية القائمة على التفكير النقدي، وتشجيع الحوار المحترم، وتعليم قيمة التواضع الفكري والاعتراف بحدود معرفتنا.