- سادة التلاوة: المدرسة المصرية
مدرسة التلاوة المصرية: إرث فريد وتأثير عالمي في قراءة القرآن الكريم
تتجلى عظمة التراث الإسلامي في فن تلاوة القرآن الكريم، وتبرز مدرسة التلاوة المصرية كصرح شامخ يتميز بفرادته وتأثيره العميق على مستوى العالم الإسلامي. إنها ليست مجرد أسلوب في القراءة، بل هي نهج متكامل ذو سمات مميزة لا تضاهى في أي بقعة أخرى من بقاع الأرض، خاصة في الدول الإسلامية والعربية. وقد ساهم في نشأة وتطور هذه المدرسة الفريدة عوامل تاريخية واجتماعية عميقة الجذور، يأتي في مقدمتها عراقة الأزهر الشريف، تلك المؤسسة الدينية والعلمية العريقة التي لعبت دورًا محوريًا على مر العصور في تخريج أجيال من القراء المتقنين وحفظة كتاب الله.
إن التنوع الصوتي الآسر الذي تحتضنه هذه المدرسة يمثل إحدى أبرز سماتها، بدءًا بعملاق التلاوة الشيخ محمد رفعت، الذي ارتقى بفنه إلى قمة يصعب تصورها، ويكفي أن يتردد صوته العذب في أول مغرب من شهر رمضان ليضفي على الأجواء روحانية لا مثيل لها في مصر. ويختتم هذا العنقود الفريد بالشيخ محمد محمود الطبلاوي، مرورًا بكوكبة من الأساطين والأعمدة الراسخة في سماء التلاوة عبر الزمان والمكان.
وقد أرست هذه الخصائص الفريدة معالم واضحة للتلاوة المصرية، محولة إياها إلى المدرسة الأكبر والأعمق تأثيرًا في قلوب المستمعين للقرآن الكريم في كل أصقاع الدنيا. ولعل من أهم الميزات التي انفردت بها التلاوة المصرية، الدقة المتناهية في تطبيق أحكام التجويد، مع إيلاء اهتمام بالغ بالإتقان في أحكام المدود بأنواعها، والغنن بمختلف مراتبها، والإظهار والإخفاء والإدغام بغنة وبغير غنة، والإحكام البالغ لمخارج الحروف، واستيفاء كل حرف ما يستحقه من صفات، كصفات الجهر والهمس، والشدة والرخاوة، والاستعلاء والاستفال، والانفتاح والإطباق، والصفات العارضة كالقلقلة والصفير والتفشي وغيرها. كما تميز قراء هذه المدرسة بإتقانهم العميق للمقامات الموسيقية العربية الأصيلة، وتسخيرهم لهذا العلم في تلوين آيات الذكر الحكيم، مما أضفى على تلاواتهم جمالًا وروعة وتأثيرًا وجدانيًا عميقًا يخاطب الروح والوجدان.
وقد منحت هذه الدقة والإتقان دولة التلاوة المصرية وقراءها ثقة ومصداقية كبيرتين في العالم الإسلامي، حتى أصبح علماء القراءات المصريون على مدى القرنين الماضيين المرجع الأول الذي يعود إليه أهل الإسلام في مسائل كتابة المصاحف وضبطها، والتأكد من موافقة رسمها لقراءة البلد الذي تنتمي إليه. وفي العقود الأولى من القرن العشرين، كانت العديد من البلاد العربية تحرص على مراجعة مصاحفها ومطابقتها بالنسخة المعتمدة من قبل علامة القراءات الشيخ علي محمد الضباع، الذي بلغ شأنًا عظيمًا في فنه وتآليفه، حتى أصبح قبلة ومقصدًا لطلاب هذا العلم من كل حدب وصوب، بعد أن آلت إليه رئاسة الإقراء في الديار المصرية وبلاد العرب قاطبة.
ولكل هذه الأسباب الجوهرية، أصبحت التلاوة المصرية نبراسًا ساطعًا يُحتذى ويُطلب، وتهافت المسلمون من شتى بقاع الأرض على دعوة كبار القراء المصريين لإحياء المحافل والمناسبات الدينية، خاصة في شهر رمضان المبارك. ولقد لقي القراء الأجلاء القادمون من مصر كل أشكال التكريم والتبجيل والحفاوة في الاستقبال على المستويين الرسمي والشعبي، بل ربما خرج بعضهم بعد تلاوته محمولًا على الأعناق، متوسلًا إليه الجماهير أن يطيل إقامته في بلدهم لما تركته تلاوته من أثر عميق في النفوس. ولا شك أن مدرسة التلاوة المصرية قد مثلت ولا تزال معلمًا بارزًا من معالم قوة مصر الناعمة وتأثيرها الثقافي والروحي في العالم الإسلامي.
أجيال من قراء التلاوة المصرية: مسيرة من الإبداع والإتقان (أمثلة):
- الجيل الذهبي: رواد التأسيس والرسوخ: الشيخ محمد رفعت، الذي تروى عنه الكثير من القصص المؤثرة التي تجسد تأثير تلاوته وخشوعه العميق، وكيف كان صوته يأسر القلوب ويحرك الوجدان، والشيخ علي محمود، الذي يُعد بمثابة الأب الروحي لكثير من القراء اللاحقين، بما امتلكه من علم غزير وفن رفيع.
- جيل الوسط: قمة النضج والانتشار: الشيخ محمود الحصري (المعلم صاحب المنهجية الواضحة في التلاوة)، الشيخ محمد صديق المنشاوي (صاحب الصوت الشجي والرحلات الإيمانية عبر تلاوته المؤثرة)، الشيخ مصطفى إسماعيل (أستاذ المقامات المتقنة والقادر على التنقل بينها ببراعة)، الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (صاحب الحنجرة الذهبية التي أسرت الملايين حول العالم)، الشيخ محمود علي البنا (صاحب الصوت الهادئ المتسلل إلى القلوب برقة وعذوبة)، الشيخ عبد العظيم زاهر (صاحب الصوت المميز والفريد).
- جيل لاحق: استمرار الإرث والتنوع: الشيخ أبو العينين شعيشع (القيمة الفنية الكبيرة التي لم تنل حظها من الشهرة الإعلامية)، الشيخ محمد محمود الطبلاوي، الشيخ كامل يوسف البهتيمي، الشيخ منصور الشامي الدمنهوري، الشيخ شعبان الصياد، الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، الشيخ طه الفشني، الشيخ إبراهيم الشعشاعي، الشيخ عبد العزيز علي فرج، الشيخ راغب مصطفى غلوش، الشيخ عبد المنعم الطوخي، الشيخ الشحات أنور الكبير، وغيرهم الكثير ممن حملوا لواء هذه المدرسة الأصيلة.
دور الإذاعة المصرية: منبر الانتشار والترسيخ: لقد لعبت الإذاعة المصرية منذ نشأتها دورًا تاريخيًا محوريًا في نشر التلاوات الخاشعة لكبار القراء المصريين، وساهمت بشكل كبير في وصول أصواتهم المميزة وأسلوبهم الفريد إلى ملايين المستمعين في العالم العربي والإسلامي، مرسخة بذلك أسس مدرسة التلاوة المصرية وأصولها. لقد كانت الإذاعة بحق منبرًا أساسيًا لترسيخ هذا الأسلوب الفريد وتقديمه للأجيال المتعاقبة، لتصبح علامة مميزة للهوية الثقافية المصرية.
تأثير عالمي وتوثيق للأجيال القادمة: لم يقتصر تأثير هذه المدرسة العريقة على مصر وحدها، بل امتد ليشمل قراءً من مختلف الجنسيات سعوا جاهدين إلى محاكاة أساليب القراء المصريين الكبار، معترفين بفضلهم وريادتهم في هذا المجال. واليوم، تُعد التسجيلات الصوتية والمرئية لتلاوات هؤلاء القراء الأجلاء ثروة هائلة ومرجعًا لا يقدر بثمن لكل من يتعلم أو يستمع إلى القرآن الكريم. وقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة ووسائل الإعلام الرقمية المختلفة في استمرار انتشار هذا الإرث القيّم ووصوله إلى أوسع الشرائح حول العالم.
البعد الروحاني والأثر الوجداني: لقد تميزت التلاوة المصرية ب بعدها الروحاني العميق والأثر الوجداني الكبير، حيث يساهم الإتقان البالغ في تطبيق الأحكام والأداء الصوتي الرفيع في إحداث حالة من الخشوع والتأمل لدى المستمع، مما يعزز تدبره لآيات القرآن الكريم وفهمه لمعانيه السامية، ويجعل لتلك التلاوات تأثيرًا فريدًا يخاطب الروح ويهز المشاعر.
وكما قال مولانا الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله: "القرآن نزل بمكة ليتلى في مصر"، وهي مقولة بليغة تلخص هذه المكانة الخاصة التي تبوأتها مصر في فن تلاوة القرآن الكريم.
والتميز يتجلى بوضوح سواء في الترتيل، حيث كان جميع هؤلاء القراء نجومًا ساطعة يمتلكون القدرة على إيصال المعاني بوضوح وخشوع، ثم في التجويد، الذي يمثل قمة التفرد والاحترافية في مدرسة التلاوة المصرية التي لا يوجد لها مثيل في العالم أجمع.
جزاهم جميعًا كل خير ورحمة الله عليهم جميعًا أحياء وأموات.
ملحوظة: الشيخ محمد جبريل يمثل استثناءً نسبيًا من هذه المدرسة، حيث يغلب على أدائه أسلوب الترتيل، وإن كانت له بعض التلاوات المجودة إلا أنها قليلة ونادرة. أما الشيخ نصر الدين طوبار فيمتاز بتفرده في أداء التواشيح الدينية ولم أسمعه قارئًا للقرآن الكريم.