الاختيار بحث عن الحقيقة في متاهات النفس والسينما المصرية.

 

الاختيار

بحث عن الحقيقة في متاهات النفس والسينما المصرية.

============


"شاهيني من الدرجة الأولى": رحلة في أعماق النفس وصراع القيم

يُعد فيلم "الاختيار" عملًا سينمائيًا مصريًا فريدًا من نوعه، يتجاوز سطحه البوليسي المتمثل في البحث عن قاتل ليغوص بنا في أعماق النفس البشرية ويطرح تساؤلات فلسفية واجتماعية شائكة. فمن خلال ثنائية الأخوين المتناقضين، الكاتب ذي النفوذ والبحار البوهيمي الحر، يرسم الفيلم لوحة معقدة لصراع القيم، ومفهوم الحقيقة، وطبيعة العلاقات الإنسانية، وإن شاب تنفيذه السينمائي بعض جوانب الغرائبية والترميز المباشر.

صراع الأنا والآخر: تحليل ثنائية الأخوين ومفهوم الحقيقة

تبرز ثنائية الأخوين في الفيلم كتمثيل قوي لصراع داخلي كامن في النفس البشرية، أو كقطبين متناقضين يتجاذبان في المجتمع. فالأخ الكاتب، ذو الجاه والسلطة، يمثل جانبًا تقليديًا ومقيّدًا بالأعراف، بينما يجسد الأخ البحار البوهيمي التحرر والانطلاق والبحث عن الحقيقة المجردة. يتبدى مفهوم الحقيقة كأحد المحاور الأساسية في الفيلم، حيث يعشقها البوهيمي بصلابة مهما كانت مؤلمة، في تناقض صارخ مع تدليس الكاتب الذي يستمده من ضرورات الحفاظ على مكانته الاجتماعية. هنا، يثير الفيلم تساؤلات حول قيمة الصدق في عالم يفضل غالبًا الأوهام والمجاملات، ويمكن للمرء أن يتأمل في هذا السياق أفكار نيتشه حول إرادة القوة وتشكيل الحقائق، أو رؤى فوكو حول العلاقة بين السلطة والمعرفة وإنتاج الخطاب.

تشريح العلاقات الإنسانية: نظرة نقدية من منظور البوهيمي

يقدم الفيلم، عبر لسان البوهيمي، نقدًا لاذعًا لطبيعة العلاقات الإنسانية السائدة. فحواره حول العلاقات التي تبدأ بالرغبة وتنتهي بانتهاء المنفعة، في مقابل دعوته لبناء علاقات أصيلة تقوم على التفاهم والعطف بعد تجاوز الشهوة، يمثل تحديًا للأسس التي تقوم عليها العديد من الروابط الاجتماعية. يتجلى هذا الصراع في العلاقات الأخرى التي يستعرضها الفيلم، بدءًا من العلاقة "المنفتحة" بين الضابط وخطيبته التي تبدو خالية من الغيرة، مرورًا بعلاقة الكاتب الباردة بزوجته التي تدفعها للبحث عن الدفء لدى أخيه، وصولًا إلى رفض البوهيمي القاطع لخيانة أخيه تمسكًا بقيم أخلاقية راسخة. يترك الفيلم المشاهد يتساءل عما إذا كان يتبنى بشكل كامل رؤية البوهيمي النقدية أم أنه يعرض تعقيدًا أعمق لهذه العلاقات.

دلالات البوهيمية في الفيلم: الحرية المطلقة أم فوضى القيم؟

يستكشف الفيلم مفهوم البوهيمية من خلال شخصية البحار وحياة "ماخور" بهية، المكان الذي يبدو وكأنه فضاء للتحرر المطلق من القيود الاجتماعية والأخلاقية. يطرح الفيلم هنا سؤالًا ضمنيًا حول ما إذا كانت هذه البوهيمية تمثل نمط حياة بديلًا أكثر صدقًا وأصالة، أم أنها تنزلق إلى فوضى قيمية تحت ستار الحرية. من المهم هنا مقارنة هذا التصوير السينمائي للبوهيمية بالتعريفات التاريخية والفنية لهذا المصطلح، الذي يعود في الأصل إلى الإشارة إلى الغجر القادمين من بوهيميا، ثم تطور ليشمل الفنانين والأفراد الذين يتبنون أساليب حياة غير تقليدية. يبدو أن الفيلم يعرض البوهيمية كدعوة للتحرر من الأعراف، لكنه يلمح أيضًا إلى المخاطر المحتملة لهذا التحرر إذا انفلت من أي ضوابط.

تقييم الجوانب السينمائية: بين الغرائبية والترميز والأداء التمثيلي

على مستوى التنفيذ، يعاني فيلم "الاختيار" من بعض التفاوت. فقد جنح السيناريو في بعض الأحيان نحو الغرائبية في التناول، وبدت بعض اللقطات منفصلة وغير مترابطة بشكل سلس. كما أن الترميز في بعض المشاهد اتسم بالمباشرة المفرطة، مما أفقد الرمز وظيفته الإيحائية. ومع ذلك، يبرز الأداء التمثيلي كأحد نقاط قوة الفيلم. فقد قدم عزت العلايلي أداءً مميزًا في تجسيد شخصيتي الأخوين، وإن بدا حضوره في دور البحار أكثر إقناعًا وتأثيرًا. كما استطاعت هدى سلطان أن تجسد ببراعة تعقيد شخصية بهية كامرأة عاشقة بأسلوبها الخاص. بينما بدا دور سعاد حسني أقل بروزًا في سياق الأحداث والأفكار الرئيسية للفيلم. تجدر الإشارة أيضًا إلى الاقتباس الواضح من فيلم "باب الحديد" في مشهد تسليم سيد مع بهية، وهو ما يمكن تفسيره كتكريم لعمل سينمائي سابق أو كإشارة إلى themes متشابهة تتعلق بالرغبة والاحتياج.

خاتمة

في الختام، يمثل فيلم "الاختيار" تجربة سينمائية مصرية جريئة تطرح أسئلة عميقة حول النفس البشرية، القيم الاجتماعية، ومفهوم الحقيقة. وعلى الرغم من بعض الملاحظات على مستوى السيناريو والتنفيذ، إلا أن الفيلم ينجح في إثارة النقاش حول قضايا جوهرية تظل актуальна حتى يومنا هذا. يبقى السؤال مفتوحًا حول مدى نجاح الفيلم في تحقيق توازنه بين طرح هذه الأفكار المعقدة وتقديم عمل سينمائي متماسك ومؤثر على المستوى الفني.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.