شفيقة ومتولى
=========
"شفيقة ومتولي": سيمفونية العبقرية في تصوير صراع القوى ونبض التحول الاجتماعي
أيام ما كان عند مبدعين!
فيلم "شفيقة ومتولي" ليس مجرد عمل سينمائي، بل هو سيمفونية متكاملة من الإبداع، تجسد ببراعة قدر مصر التاريخي كمسرح لصراع القوى الكبرى بمساعدة النخب في كل المجالات. وقد أبدع العملاق صلاح جاهين في نثر هذه الفكرة المعقدة بحرفية معهودة، مقدمًا نواة درامية ثرية استلهمت قصة إنسانية عميقة لتجسيد هذه الصراعات الخفية. ولم يقتصر دوره على ذلك، بل أثرى الفيلم بروحه الشعرية ككاتب للأغاني، حيث ساهمت كلماته العذبة، وخاصة في أغنية "بانو بانو"، في التعبير عن أدق مشاعر البطلة وتطورها النفسي، لتصبح الأغنية جزءًا لا يتجزأ من السرد الدرامي. وقد تضافرت جهود كل العاملين بالفيلم، أمام الكاميرا وخلفها، لترجمة هذه الرؤية إلى عمل فني خالد.
بقيادة المخرج الواعي جدًا، وقامة السينما المصرية، الأستاذ علي بدرخان، الذي عشق الفكرة وأخلص في تقديمها من خلال لغة بصرية آسرة وكادرات مريحة وعميقة. لقد تميز أسلوب بدرخان في هذا الفيلم بالواقعية مع لمسة شعرية، حيث استخدم الكاميرا ببراعة لرصد تفاصيل الحياة اليومية وفي الوقت نفسه للتعبير عن المشاعر الداخلية للشخصيات دون الوقوع في الاستعراض الفج للأدوات الإخراجية. وإلى جانبه، أبدع مهندس الديكور القدير رشدي حامد في اختيار مواقع التصوير الخارجية والداخلية بعناية فائقة، وتصميم الملابس المميزة لشفيقة، التي لم تكن مجرد أزياء، بل رموزًا بصرية تعكس وضعها الاجتماعي وتقدمها في الأحداث. أما الموسيقى الساحرة لفؤاد الظاهري والألحان الخالدة لكمال الطويل في "بانو بانو" وإبراهيم رجب في الموشح الأندلسي، فقد نسجت نسيجًا صوتيًا غنيًا أضاف أبعادًا عاطفية وجمالية عميقة للفيلم.
أمام الكاميرا، تجلت عبقرية أخت القمر سعاد حسني في تجسيد شخصية شفيقة بكل ما تحمله من قهر وتحول نحو الاستقلال. لقد قدمت سعاد حسني أداءً أيقونيًا، حيث استطاعت ببراعة أن تنقلنا عبر مراحل حياة شفيقة، من الضعف إلى القوة، ليصبح تمردها رمزًا للتحرر الأنثوي والاجتماعي، ويتجلى هذا التحول بوضوح في أدائها الحركي المعبر في أغنية "بانو بانو". وعلى الجانب الآخر، قدم فارس السينما أحمد مظهر أداءً بارعًا لشخصية "النخاس"، كاشفًا عن الوجه القبيح للنخبة المستغلة التي تتستر وراء قناع زائف من الرقي والقيم. لقد جسد مظهر ببراعة دوافع هذه الشخصية الأنانية والمتعطشة للسلطة، والتي تمثل فئة تسعى للسيطرة على مقدرات البسطاء. أما أستاذ الأجيال عبد الوارث عسر، فحضوره وحده كان يضفي على الفيلم وقارًا وعمقًا لا يضاهى. لقد كان تجسيدًا لقيم أصيلة بدأت تتلاشى في ذلك الوقت. وبرزت نعيمة الصغير في دور "ملك الجمل" كشخصية شعبية قوية ومؤثرة في سياق الأحداث. وأضاف يونس شلبي ومحمود الجندي بلمحاتهما الكوميدية والتلقائية نكهة خاصة للعمل. بينما كان دور أحمد زكي بمثابة الشرارة الأولى لعبقريته، حيث أظهر شغفًا بالتفاصيل وتقمصًا عميقًا للشخصية على المستويين الشكلي والداخلي.
يحمل فيلم "شفيقة ومتولي" في طياته نقدًا اجتماعيًا لاذعًا للعديد من القضايا، مثل استغلال المرأة في مجتمع ذكوري، وتفاقم الفوارق الطبقية، وانتشار الفساد وسوء استغلال السلطة. لقد وضع الفيلم هذه القضايا تحت المجهر بجرأة وواقعية. يُعد "شفيقة ومتولي" علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية، وينتمي إلى موجة الواقعية الجديدة التي سعت لتقديم صورة حقيقية للمجتمع وهمومه. وقد استقبل الفيلم عند عرضه بتقدير كبير من النقاد والجمهور على حد سواء، لما يحمله من جرأة في الطرح وقيمة فنية عالية. ويمكن استخلاص العديد من الرسائل والأفكار من الفيلم حتى اليوم، أهمها ضرورة مقاومة الظلم والاستغلال، والسعي نحو التحرر الفردي والاجتماعي.
نحن لسنا أمام عمل عادي، ولكن أمام عمل فني متكامل يستحق مشاهدًا واعيًا بفن السينما التي هي الفن السابع، لأنها فن تجميع الفنون، لأننا سنرى في هذا العمل الإبداع في كل مجال، فلابد من المشاهدة بتركيز يليق بإبداع العاملين بتلك الدرة. في الختام، يظل فيلم "شفيقة ومتولي" تحفة فنية شاهدة على عبقرية صناعها وقدرة السينما على أن تكون مرآة عاكسة للواقع ومحفزًا للتغيير.