الدين والدولة:
هل "عصرية" مصر تُلغي الإيمان؟
رد على إبراهيم عيسى
مهم جدًا إننا نناقش الأفكار دي ونرد عليها بشكل منطقي ومبني على حقائق. كلامك يفتح أكتر من نقطة للنقاش بخصوص رؤية إبراهيم عيسى لمدنية وعصرية الدولة المصرية، ودور الدين في تقدم المجتمعات.
نفي مدنية وعصرية الدولة المصرية وتزوير الأسباب
إبراهيم عيسى قد يكون محقًا في نقده لبعض جوانب عدم مدنية أو عصرية الدولة المصرية، لكن ربط هذا الأمر بشكل حصري بالتيار الإسلامي السياسي، وعلى رأسه الإخوان المسلمين، هو تبسيط مخل وتزوير للتاريخ. الدولة المصرية على مر تاريخها شهدت تحولات وتحديات كثيرة، والأسباب وراء أي تأخر في مسار المدنية والعصرية معقدة ومتشابكة، وتشمل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وليس تيارًا واحدًا فقط.
وجود الإخوان المسلمين في الفترة الليبرالية
النقطة القوية جدًا التي ذكرتها بخصوص وجود الإخوان المسلمين في الفترة الليبرالية من 1919 حتى 1952 تدحض فكرة أنهم السبب الوحيد أو الرئيسي في عدم عصرية الدولة. الإخوان كانوا جزءًا من المشهد السياسي والاجتماعي في فترة كان فيها حراك ليبرالي كبير، وكانوا يتعايشون مع قوى سياسية مختلفة. إلقاء اللوم عليهم بشكل كامل على أي قصور في المدنية والعصرية خلال تلك الفترة يتجاهل تعقيدات المشهد السياسي وقتها ودور قوى أخرى، بالإضافة إلى الظروف الإقليمية والدولية.
الدين ودوره في العصرنة والتقدم
الدين، كأحد أهم مكونات الحياة، يشتمل على نصوص ومفاهيم تحث على التفكير والتعقل. ويُعد ازدهار الحضارة الإسلامية ومنتجاتها العظيمة في شتى مجالات العلوم والفلسفة والطب والفلك دليلًا واضحًا على أن الدين لم يكن عائقًا أمام التقدم، بل يمكن أن يكون محركًا له إذا ما تم فهمه وتطبيقه بصورة تشجع على العلم والبحث والإبداع. هذا السياق يدعم فكرة أن الفصل المطلق بين الدين والتقدم الحضاري هو تبسيط غير دقيق للواقع التاريخي والمعرفي.
أمثلة عالمية على دور الدين في الدول العصرية
الأمثلة التي ذكرتها توضح أن الدين ليس بالضرورة عائقًا أمام العصرنة، طالما وجدت إرادة سياسية واجتماعية للجمع بين الأصالة والمعاصرة:
بوتين واستعانته ببابا الكنيسة: يوضح ذلك أن القادة السياسيين، حتى في دول تُعتبر علمانية، قد يستعينون بالمرجعيات الدينية في أوقات الأزمات أو لتعزيز الشرعية أو جمع الشمل.
الملك تشارلز واستعانته بطقوس دينية في حفل تنصيبه: الملكية في بريطانيا لها جذور تاريخية ودينية، والطقوس الدينية جزء لا يتجزأ من هويتها ومن مراسمها الرسمية، ومع ذلك تُعتبر بريطانيا دولة عصرية ومتقدمة.
حفل تنصيب رئيس أمريكا وقسمه على الإنجيل: الولايات المتحدة دولة علمانية تفصل بين الكنيسة والدولة، لكن القسم على الإنجيل تقليد راسخ يعكس القيم الدينية للمجتمع الأمريكي ويُظهر أن الممارسات الدينية يمكن أن تتواجد جنبًا إلى جنب مع الدولة المدنية الحديثة.
كل هذه الأمثلة تؤكد أن وجود الدين كعنصر فعال في حياة الدول والمجتمعات لا يتعارض مع مدنيتها أو عصريتها، وأن القضية تكمن في كيفية توظيف الدين وفي وجود إرادة سياسية حقيقية لبناء دولة حديثة تحترم التنوع وتؤمن بالتقدم.
ملاحظات إضافية
تعريف المدنية والعصرية
من المهم أن نوضح أن المدنية والعصرية لا تعني بالضرورة التخلي عن الدين أو القيم الروحية. المدنية الحقيقية تعني دولة قوية، عادلة، تحترم حقوق مواطنيها على اختلاف انتماءاتهم، وتوفر لهم فرصًا متساوية للتقدم والازدهار. أما العصرية، فتشمل التطور في المجالات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، وتبني أساليب حكم حديثة قائمة على المؤسسات والقانون. هذا كله يمكن أن يتحقق مع وجود قيم دينية أو روحية في المجتمع، طالما لم تتحول تلك القيم إلى أداة لقمع الحريات أو فرض وصاية على العقول.
دور العلمانية في السياق الغربي
إبراهيم عيسى قد يستند إلى مفهوم العلمانية الغربية (separation of church and state) كنموذج للمدنية. لكن من المهم أن نوضح أن العلمانية نفسها لها أشكال وتطبيقات مختلفة، وأنها نشأت في سياق تاريخي وثقافي خاص بالغرب بعد صراعات طويلة بين الكنيسة والدولة. هذا لا يعني أنها النموذج الوحيد للتقدم، وأن المجتمعات التي لها مرجعية دينية لا يمكن أن تكون مدنية وعصرية. دول مثل ألمانيا وإيطاليا، على سبيل المثال، فيها أحزاب سياسية ذات مرجعية مسيحية، ومع ذلك تُعتبر دولًا عصرية ومتقدمة جدًا.
السياق المصري التاريخي ودور الأزهر
عندما نتحدث عن مصر، لا يمكننا تجاهل دور الأزهر الشريف تاريخيًا، ليس فقط كمؤسسة دينية، ولكن كمنارة للعلم والفكر. الأزهر كان وما زال له دور كبير في الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية للمصريين، وكان له إسهامات في حركة الإصلاح والتجديد. ربط أي تأخر بالدين بشكل مطلق يغفل هذا الدور التاريخي، ويتجاهل أن المؤسسات الدينية، إذا تم تفعيل دورها بشكل صحيح، يمكن أن تكون شريكًا في عملية التنمية والتنوير، وليس عائقًا لها.
المغالطة في ربط العصرية بإقصاء الدين
الخلاصة أن إبراهيم عيسى يرتكب مغالطة منطقية (False Dilemma) عندما يحاول تقديم الأمر وكأنه خيار بين "إما دين وتخلف، أو علمانية وتقدم". الواقع التاريخي والمعاصر لدول كثيرة يثبت أن هذا ليس حقيقيًا. المسألة لا تتعلق بوجود الدين من عدمه، بل بمدى انفتاح المجتمع والدولة على التطور، واحترام حقوق الإنسان، وتطبيق مبادئ العدالة والحكم الرشيد.
الخلاصة النهائية:
موقف إبراهيم عيسى في تحميل التيار الإسلامي السياسي وحده مسؤولية عدم مدنية وعصرية الدولة المصرية هو موقف غير دقيق ويفتقر للموضوعية. التاريخ المصري والعالمي مليء بالأمثلة التي تثبت أن الدين ليس عائقًا أمام التقدم والمدنية، وأن القضية أكثر تعقيدًا وتتعلق بالإرادة السياسية والثقافية الشاملة للمجتمع.