الحرية: أبعد من الكلمات.. مسؤولية ووعي


الحرية: أبعد من الكلمات.. مسؤولية ووعي
================

كم من مرة سمعنا أو قرأنا كلمة "حرية"؟ إنها مصطلح يتردد صداه في كل مكان، من ساحات النضال حيث يسعى الأفراد والمجتمعات للتحرر من قيود الاحتلال والظلم، إلى النقاشات اليومية حول حقوقنا الأساسية وحدود تدخل السلطة في حياتنا. وحتى أولئك الذين قد يسيئون فهم هذا المفهوم النبيل، ويستخدمونه كغطاء لأفعال لا تخدم الصالح العام، يتشدقون به.

لكن، ما هي الحرية حقًا؟ إنه سؤال جوهري وعميق يستدعي منا وقفة تأمل وتدقيق في مختلف معانيه وأبعاده، حتى لا نختزلها في مجرد كلمة جوفاء أو شعار براق.

تعريفات أساسية للحرية: رحلة في المعنى

لغويًا، تحمل كلمة "حرية" في طياتها معنى التحرر والخلاص من كل ما يقيد الروح والجسد، من الشوائب التي تعكر الصفو، ومن أغلال الرق والعبودية، ومن دناءة اللؤم. إنها الحالة الطبيعية للكائن الحي الذي ينطلق بإرادته دون أن يخضع لقوة قاهرة أو سلطة مستبدة.

فلسفيًا، يتجلى مفهوم الحرية في مستويين متكاملين: حرية التنفيذ، وهي تلك القدرة الظاهرة لنا على الفعل أو الامتناع عنه دون أن تعيقنا قيود خارجية مادية أو بشرية عن تحقيق ما نرغب فيه. وعلى الجانب الآخر، نجد حرية التصميم أو الإرادة الحرة، وهي الأعمق والأكثر جوهرية، حيث تتعلق بقدرتنا الداخلية الراسخة على الاختيار واتخاذ القرارات بناءً على وعي وتفكير وروية، لا تحت تأثير دوافع قاهرة تتحكم بنا عنوة، أو أهواء جامحة تقودنا بلا بصيرة. وكما أشار الفيلسوف الروماني سينيكا بحكمة: "الشجاع يكون حراً"، مؤكدًا على أن القوة الداخلية والصلابة في مواجهة التحديات هي الأساس المتين للحرية الحقيقية.

وقد قدم لنا الفيلسوف "إيمانويل كانط" تقسيمًا مفيدًا للحرية، حيث ميز بين الحرية السالبة، التي تعني ببساطة غياب القيود الخارجية التي تحول بين الفرد وبين فعل ما يريده، والحرية الموجبة، التي تتجاوز مجرد الغياب، لتركز على توفير الإمكانيات والأدوات الحقيقية التي تمكن الفرد من ممارسة حريته السالبة بفاعلية وإيجابية. فالحق في حرية التعبير (حرية سالبة) يصبح ذا قيمة حقيقية فقط عندما تتوافر للفرد حرية الوصول إلى وسائل الإعلام المختلفة والتعبير عن رأيه بحرية وأمان (حرية موجبة).

أبعاد الحرية: فردية واجتماعية

في سياقنا الاجتماعي، نميز بين الحرية الفردية، وهي تلك الحقوق الأساسية التي يتمتع بها كل فرد، وتشمل حقه في التعبير عن آرائه وأفكاره بحرية، واختيار مكان إقامته وعمله بحرية، وتكوين علاقاته الاجتماعية والعاطفية دون تدخل تعسفي، وغيرها من الحقوق الشخصية التي تصون كرامته واستقلاليته. وعلى صعيد أوسع، نجد الحرية الاجتماعية، التي تعبر عن حق المجتمع ككل في التحرر من قوى الاحتلال والاستبداد، وحقه الأصيل في تقرير مصيره بنفسه واختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون إملاءات خارجية.

الحرية في القانون والفلسفة: رؤى متعددة

قانونيًا، تُعرف الحرية بأنها قدرة الأفراد على ممارسة مختلف أنشطتهم دون التعرض للإكراه أو الضغط، ولكن ضمن الإطار الذي تحدده القوانين المنظمة للمجتمع، والتي تهدف إلى تحقيق العدل والمساواة والحفاظ على النظام العام. وقد تباينت النظرة إلى مدى اتساع هذه الحرية وحدودها بين المذاهب القانونية والسياسية المختلفة، فبينما يرى المذهب الفردي أن الحرية الفردية هي الأصل وأن الدور الأساسي للدولة هو حماية هذه الحرية وتأمينها، يقدس المذهب الاشتراكي مصلحة الجماعة والمجتمع ككل، وقد يجعل حرية الفرد خاضعة لتحقيق الأهداف الجماعية.

فلسفيًا، يرتبط مفهوم الحرية ارتباطًا وثيقًا بالإرادة الواعية والمسؤولية الأخلاقية. الفعل الحر في هذا السياق هو الفعل الذي ينبع من تدبر وتفكير عميق، ويكون الفاعل فيه واعيًا بدوافعه وعواقب أفعاله. وقد تنوعت معاني الحرية في الفكر الفلسفي بين الحرية الأخلاقية، التي تركز على الفعل الصادر عن وعي ومسؤولية، والحرية النفسية، التي ترتبط بالشعور الداخلي بالاستقلالية والقدرة على الخلق والتعبير عن الذات، والحرية الاجتماعية، التي تتجلى في قدرة الأفراد على المشاركة الفعالة في الحياة العامة والتأثير في مجتمعهم.

موقف الإسلام من الحرية: ضوابط الحق لا الفسوق

أما في الإسلام، فالحرية ليست مجرد منحة، بل هي حق أساسي كرم الله به الإنسان. قال تعالى في كتابه الكريم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. وقد أقر الإسلام حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير عن الرأي والنقد البناء، لكن هذه الحريات ليست مطلقة بلا قيود، بل تخضع لضوابط الشرع السمحة والمقاصد العليا للشريعة التي تهدف إلى تحقيق العدل والمصلحة العامة ودرء المفاسد. إنها حرية الحقوق التي تحفظ كرامة الإنسان والمجتمع، وليست رخصة للفسوق والإضرار بالآخرين أو بالنفس. فكما أوضح العلامة يوسف القرضاوي، الإسلام يقر الحريات الأساسية التي تقوم عليها حياة كريمة، حرية التفكير والعلم والرأي والاعتقاد والتملك والتصرف المشروع.

مفاهيم خاطئة عن الحرية: الوهم والانفلات

يقع البعض في مفاهيم خاطئة عن الحرية، حيث يختزلونها في مجرد الانفلات من كل قيد أو ضابط، متوهمين أن الحرية الشخصية تعني فعل ما يحلو لهم دون أدنى مسؤولية أو اعتبار للقيم والأخلاق. لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. الحرية الحقيقية ليست فوضى أو تحللًا، بل هي ممارسة واعية ومسؤولة للحقوق ضمن أطر قيمية وأخلاقية راسخة تخدم الفرد والمجتمع على حد سواء. وكما عبر الشاعر الثائر أبو القاسم الشابي: "إذا الشعب يومًا أراد الحياة... فلا بد أن يستجيب القدر"، مشيرًا إلى أن الإرادة الحرة للشعوب هي قوة لا تقاوم، لكنها إرادة واعية ومسؤولة تسعى نحو حياة أفضل وقيم أسمى.

كلمة أخيرة: الحرية مسؤولية واختيار واعٍ

في الختام، الحرية ليست مجرد كلمة أو شعار يرفع بلا وعي، بل هي جوهر الإرادة والاختيار المسؤول. إنها حق أساسي لكل إنسان، لكن ممارستها تتطلب فهمًا عميقًا لأبعادها المختلفة ووعيًا كاملًا بمسؤوليتنا تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا. الحرية الحقيقية تزدهر في ظل الوعي بالحقوق والمسؤوليات، وفي ظل التمسك بالقيم الإنسانية النبيلة التي تسمو بالفرد والمجتمع نحو مدارج الرقي والتقدم.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.