إشكالية تعريف المسخرة والعبث: تشخيص أزمة مجتمعية
تتداخل الحدود بين المسخرة و العبث بشكل كبير، سواء على المستوى الشعبي أو لدى النخب المثقفة. هذا الغموض يثير تساؤلات حول فهمنا وتقييمنا للسلوكيات التي تتراوح بين الاستهزاء واللاجدوى والطيش. يعود هذا الالتباس جزئيًا إلى التحولات المتسارعة في القيم الاجتماعية، حيث تُرى بعض التصرفات غير المسؤولة كـ"تحرر" أو "خفة ظل"، خاصة مع تأثير الإعلام والثقافة الشعبية التي تُسطّح القضايا وتُعلي من الترفيه على حساب الجدية. ضعف الخطاب النقدي يعيق التمييز الدقيق، ما يفتح الباب لتسييس هذه المفاهيم واستغلالها.
المفارقة الصادمة ومظاهر العبثية: قيادات ترتدي قناع العقلانية
تتجسد المفارقة في ممارسة من يُفترض بهم أن يكونوا رواد العقلانية ألوانًا من العبثية والمساخر عن عمد، مع سعيهم لتصوير أنفسهم كدعاة للعقل والمنطق. تتجلى هذه العبثية في الخطاب السياسي والإعلامي الشعبوي المعتمد على التضليل، واتخاذ قرارات مصيرية بناءً على أهواء أو مكاسب آنية، أو التعامل باستهتار مع قضايا حيوية تمس حياة الناس، وصولًا إلى الإنفاق العام غير الرشيد وتبديد الموارد في مشاريع لا طائل منها.
البعد الفلسفي والنفسي والتقني للعبث
لفهم أعمق، قد ينبع العبث من هروب نفسي من المسؤولية، أو آلية دفاعية لتجنب الواقع المعقد، أو شعور زائف بالتفوق يبرر الاستخفاف بالآخرين. هذا يتجاوز الإدراك الفلسفي لغياب المعنى المطلق في عالم لا مبالٍ. كما تُساهم التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي في تفاقم الظاهرة؛ فهي تسرّع من انتشار المحتوى العبثي، وتُنشئ بيئة لتأليه السلوكيات السطحية، وتُقلل من مساحات التفكير النقدي عبر خوارزميات تُعلي من المحتوى المثير للجدل.
دوافع العبثية والتساؤلات المحورية
فهم الدوافع الكامنة أمر بالغ الأهمية: هل هو استهتار محض؟ محاولة لكسب تأييد زائف؟ وسيلة للتغطية على إخفاقات؟ أو إشاعة للفوضى لخدمة مصالح فئة قليلة؟ هذه التساؤلات ملحة:
- من يضع حدًا لهذا التناقض الصارخ؟
- هل سيستمر هذا العزف النشاز حتى النهاية؟
- أين هم العقلاء وأصحاب البصيرة؟
تشبيه من يثقب سفينة لتحقيق مكاسب شخصية، متجاهلاً مصير الركاب جميعًا، يجسد قصر النظر والنتائج المدمرة للعبثية المستمرة.
العبث والفساد: دائرة مسؤولية متسعة
العبث، بما ينطوي عليه من استخفاف وإضاعة للموارد، يمثل أرضًا خصبة للفساد. فممارسة الاستهتار من مواقع السلطة يمهد الطريق لإخراج الأمور عن مسارها الصحيح. هنا تتسع دائرة المسؤولية لتشمل الأفراد والمؤسسات؛ فالمجتمع المدني، والمثقفون، ووسائل الإعلام، عليهم دور حيوي في التوعية وكشف الحقائق ومحاسبة المسؤولين.
نحو الحل والمواجهة: الوعي والعمل المشترك
لمواجهة هذه الإشكالية، من الضروري تعزيز الوعي النقدي لدى الجمهور لتمييز الخطاب العقلاني. دعم المؤسسات الرقابية والإعلام المستقل، وتفعيل دور القانون والمحاسبة لضمان عدم إفلات أحد من عواقب أفعاله العبثية.
على المدى الطويل، يظل التركيز على القيم الأخلاقية والمسؤولية في التربية والتعليم هو الضمانة الحقيقية لبناء مجتمع واعٍ. يجب أن يشمل ذلك التعليم النقدي، غرس مهارات تحليل المعلومات، والتربية على المسؤولية المدنية والانتماء، بالإضافة إلى دور الأسرة والمؤسسات الدينية في تعزيز القيم الأصيلة ومواجهة ثقافة السطحية.
ختامًا: دعوة للوعي والعمل ومستقبل العبثية
طرح هذه القضية الحيوية يُعد مساهمة قيمة في دق ناقوس الخطر. تسليط الضوء على هذا التداخل الخطير بين المسخرة والعبث، خاصة عندما يصدر من النخب، هو خطوة ضرورية نحو إدراك حجم التحدي والبحث عن سبل المواجهة. السؤال المطروح هو: هل ما نشهده اليوم من تفاقم للعبثية هو مجرد بداية لـ"تطبيع" أوسع لهذه الظاهرة، أم أن هناك أملًا في صحوة جماعية تستعيد قيمة الجدية والمسؤولية؟ نأمل أن يجد هذا الصوت الصدى اللازم وأن يُحفز على نقاش جاد ومثمر يقود إلى وعي جماعي وفعل مسؤول.