- اعتراف بالعشق... وقرار بالرحيل
يعتصر القلب شوقًا للحبيب، وتحترق النفس للقاه، حتى ننضج على لهيب الحب لنخرج درر ما بداخلنا... تلك الدرر قد تكون بصيرة جديدة تضيء لنا جوانب لم نرها من قبل في أنفسنا وفي العالم، أو قوة داخلية لم نكن نعلم بوجودها إلا في مواجهة حرارة الشوق. كان الشوق في قلبي كجمرة خفية تنفخ فيها الذكريات فتشتعل لهبًا يلتهم صبري، ويترك رمادًا من الحنين يلتصق بكل تفاصيل يومي، ويصبغ حتى أحلامي بلون الشوق القاتم.
قال شوقي: "وتعطلت لغة الكلام، وخاطبت عيني في لغة الهوى عيناك." هنا يختزل أمير الشعراء بلاغة العشق في نظرة، مؤكدًا أن لغة القلوب قد تغني عن ألفاظ اللسان. وأنا أقول: تعطلت حواسي وأنا معاك، حتى أستطيع أن أشم عبير روحك... في هذا الحضور الطاغي، تتلاشى الحاجة إلى اللمس والسمع والبصر المعتاد، ليحل محلها إدراك أسمى، هو استنشاق جوهر الروح. كان طعم الوحدة قبل لقائك مرًا كالعلقم، أما الآن، فعبير روحك يمحو كل مرارة، ويترك في الأنفاس ذكرى طيبة تتجدد مع كل شهيق، كأنه بلسم يداوي جراح الروح.
لم تقل "أحبك"، ولكن حولها هالة من مشاعرها تبدأ من قلبها، ومنتهاها تلامس القمر... تلك الهالة هي أثير من الوجد الصادق، طاقة حب تتجاوز حدود الجسد لتصل إلى عوالم بعيدة. إن عشقت عن حق، فإنك لا ترى معشوقك إلا بنور قلبك وبعبير روحك؛ لذا أغمض عينيك حتى تراه... فالرؤية الحقيقية تتجاوز الحس البصري، لتستنير بالبصيرة القلبية وتتعطر بصفاء الروح. كانت روحي قبل عشقها كليل دامس، وبنور قلبها أشرقت شمسي، وتبددت غيوم الوحدة التي كانت تخيم على سمائي، وأزهرت في صحراء قلبي بساتين الأمل.
يظن الكثير أن مقابلة الحبيب هي لقاء الأجساد، مع أن اللقاء يتم في حوزة القمر وبجوار النجوم... تلك الحوزة ليست مكانًا ماديًا، بل هي فضاء الروح والخيال، حيث تتحد القلوب بعيدًا عن قيود الواقع المادي. في ليالي الشوق الطويلة، كان القمر شاهدي الوحيد على حنيني، والنجوم هي رفقائي في وحدتي، وكنت أتخيل لقاءنا يتم هناك، في ذلك العالم النقي، حيث لا حدود للحب ولا قيود للروح.
الكل يدعي أنه يحب، ولكن القليل هم من يعوا ما هو الحب، والأهم كيفية أن يحب ويستخدم كل مهاراته لإسعاد حبيبه دون انتظار منه أي شيء... فالحب الحقيقي هو فعل بذل وعطاء خالص، ينبع من الرغبة الصادقة في رؤية سعادة الآخر. كانت سعادتي مرتبطة برؤية ابتسامتك، كزهرة تتفتح بنور الشمس، وكنت أسعى جاهدًا لرسم هذه الابتسامة على ثغرك، لأن فرحك كان يضيء عالمي.
الحب هو أن تشتعل كلك بنار الشوق... نار تطهر الروح وتصقلها. عندما تحب، تتسمع الكلمات بقلبك... فتدرك ما وراء الحروف من مشاعر. عندما تعشق، ترنو للكلمات بروحك... فتغوص في أعماق المعاني الكامنة. وعندما يصيبك الوله، تسبح في فضاء المعانى... عالم أرحب يتجاوز حدود اللغة المعتادة. كان صوتك لحنًا عذبًا تتراقص على أنغامه روحي، وكنت أتمنى أن يدوم هذا اللحن إلى الأبد، ويصبح نشيد حياتي.
قالت: "علمتني أن أكون امرأة... بكامل أنوثتي وقوتي، أقف شامخة في وجه الحياة. علمتني أن أكون إنسانًا... حرًا وقادرًا على الاختيار، لا أسير وفق إملاءات الآخرين. علمتني أن أعيش الحرية... بلا قيود أو خوف، أحلق بروحي في سماء واسعة. علمتني أن أغضب لنفسي... وأدافع عن حقي، بصوت عالٍ لا يرتجف. علمتني كل شيء وأي شيء... جوهر الحياة ومعناها، أبجديات الوجود. عذرًا للحياة ذاتها... فقد أصبحت باهتة بدونك، كلوحة فنية فقدت ألوانها، وتحولت إلى ظل باهت. هل سترحل؟ ومعاك الإنسان والحرية والغضب؟... جوهر وجودي وقوتي، الذي استمددته منك، والذي بدونه أعود ضعيفة. ومعاك كل شيء وأي شيء؟... عالمي بأكمله، الذي بنيته معك، والذي سيصبح خرابًا برحيلك. سأقولها مدوية: أنت لست أي شيء... بل أنت معنى كل شيء! فارحم من لا يملك أي شيء... سيفقد جوهره برحيلك، ويعود إلى العدم، يصبح كيانًا فارغًا. إن رحلت، فقدت الشيء ذاته... فقدت نفسي، وتيهت في الظلام، أصبحت روحًا بلا جسد. فارحل إن شئت، أو ارحم..." كان غضبي قبلك كعاصفة هوجاء لا تهدأ، وبقربك تعلمت كيف أوجه هذا الغضب قوة لا تدمير، بل دفاع عن الحق، وسلاحًا أحمي به نفسي.
أعترف أن عشقت... عشقًا طاهرًا وعميقًا، لم تعرف روحي قبله مثيلًا، ولن تعرف بعده. ولكن سأرحل لأنك لا تعرف حتى الحب... لم تدرك جوهر هذا الشعور المقدس، ولم تقدر كنزي الثمين، وتركت جوهرة بين يديك تتحول إلى رماد.
ستظل في قلبي... ذكرى أبدية لزمن جميل لم يكتمل. تلك الذكرى ستكون كوشم محفور على الروح، يذكرني دائمًا بجمال لم يدم، وبنار شوق ظلت مشتعلة حتى بعد أن انطفأ اللقاء، وستبقى جرحًا عميقًا يئن كلما تذكرت، وشاهدًا صامتًا على حب ضاع.
خاتمة:
تبقى تجربة الحب رحلة فريدة، تتجاوز الكلمات أحيانًا لتصل إلى أعماق الروح. وقد يكون الفراق هو الثمن المؤلم لإدراك حقيقة هذا الحب وقيمته. ولكن حتى في أشد لحظات الوحدة، تبقى بصمة الحب كضوء خافت يذكرنا بجمال ما كان، وربما، بما يمكن أن يكون، ويعلمنا دروسًا قاسية عن الفقد والوجع، ويترك فينا ندبة لا تمحوها الأيام.