صدمات المجتمع المصري: من التفكك إلى البحث عن عقد اجتماعي جديد
شهد المجتمع المصري خلال القرن العشرين سلسلة من الصدمات الحضارية العميقة، التي أحدثت خلخلة في مفاصله وقيمه الراسخة. فمنذ عقود، كان المجتمع المصري تقليديًا ومتماسكًا، ولكن سرعان ما بدأت رياح التغيير تهب بقوة.
كانت البداية مع ثورة 1919 وما تبعها من زعزعة لتماسك المجتمع الذي كان يبدو مستقرًا ظاهريًا. هذه الفترة لم تكن مجرد خلخلة سلبية، بل فتحت أيضًا المجال لبروز أفكار جديدة وحركات سياسية وثقافية كانت نواة لتغييرات كبرى. ثم جاءت الفترة الليبرالية حتى عام 1952، والتي ساهمت بشكل كبير في هذه الخلخلة، وإن كانت قد مست الطبقة العليا بشكل أكبر في بدايتها.
بتولي الرئيس جمال عبد الناصر مقاليد الحكم بعد ثورة يوليو 1952، حاولت الثورة هندسة المجتمع بطرق عدة من خلال التنميط والقولبة، في محاولة لبناء دولة حديثة قوية. ومع ذلك، أنشأت الثورة طبقة متوسطة واسعة من خلال التوسع في شركات القطاع العام وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي، ما مثل نقطة تحول كبرى في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع.
عندما تولى الرئيس أنور السادات الحكم، وبعد انتصار حرب أكتوبر 1973، أصدر قانون الانفتاح الاقتصادي. كانت هذه الخطوة بمثابة قنبلة انشطارية تفجرت في وجه المجتمع، لتغيره للأبد. هذه القنبلة لم تدمر فقط، بل أفرزت أيضًا طبقات اجتماعية جديدة ومفاهيم اقتصادية لم تكن موجودة، مما زاد من تعقيد النسيج الاجتماعي، وإن ظلت فئة تقاوم تلك القيم الجديدة التي بدأت تتسرب.
تولى الرئيس حسني مبارك الحكم وادعى الاستقرار، لكن تم هندسة المجتمع استنادًا إلى نتائج "قنبلة السادات". يمكن تلخيص هندسة منظومة حكم مبارك في العبارة التالية: "افعل ما تشاء طالما لا تقع تحت طائلة القانون الذي هو أساسًا قانون سكسوني." هذه السياسة خلقت نوعًا من الازدواجية الأخلاقية والقانونية في المجتمع، حيث بدا وكأن القوانين توفر غطاءً لتصرفات قد لا تتفق مع القيم المجتمعية التقليدية.
ثورة يناير: كسر الوهم وصدمة الحرية
بعد هذا الإيجاز المخل لهندسة المجتمع المصري خلال القرن العشرين، يتضح أن المجتمع المصري تم العبث في قواعده بطرق عدة. ومع ذلك، حافظ على بعض القيم، ولو حتى ظاهريًا، مما جعل الناس يظنون أنه لا توجد أي خلخلة للمجتمع. استمر هذا الوهم حتى أتت ثورة يناير 2011 بعبقريتها غير المسبوقة، ورسخت مبادئ جديدة مناقضة لكل هندسة سابقة للمجتمع، سواء كانت في الماضي أو في المستقبل.
كان من أهم مبادئ ثورة يناير أننا نقف على أرضية واحدة وهي المساواة دون اعتبار لأي اختلافات وهمية من حيث الجنس والدين والغنى، مع قبول المختلف دون الدخول في أسباب الاختلاف، من منطلق الحرية للكل وأن الكل إنسان وفقط. لقد كانت تلك اللحظة اليوتوبية التي عاشها المصريون في الميدان، حيث ذابت الفروقات في بوتقة واحدة من الحرية والمساواة. فوجدنا الإسلاميين، رجالًا ونساءً، يغنون أهازيج ثورية حتى وصل الأمر وكأنها حلقة ذكر، وبدأ البعض يتمايل كنوع من التعبير عن الذات المقيدة بقيود من صنع المجتمع الذكوري. ووجدنا الليبراليين يقبلون الإسلاميين دون شرط أو قيد، وكانت الحوارات بينهم على أرضية أن "الكل له الحق في قطعة من الكعكة الحجرية" (رمزًا للحياة والموارد).
آمن أهل يناير بقيم يناير من مساواة وحرية، وانطلقوا يمارسون هذه القيم. لكن الأغلبية قاومت هذه القيم لأسباب كثيرة جدًا. وهُزمت يناير على الأقل ظاهريًا، لكنها حطمت أسطورة المجتمع المتماسك وأعرافه التي كانت تبدو غبية. انطلق الكل يمارس حريته بانفلات، لأن يناير لم تستمر لتُرسخ قيمها، ومن ثم خرج المارد من داخل كل إنسان مكبوت عبر شبكة جهنمية من القواعد الموضوعة من قبل سادة المجتمع، الذي هو ليس مجتمعًا بالمعنى المعروف، بل هي تجمعات بشرية لا رابط بينهم إلا التواجد المكاني وفقط. هذا المارد حمل معه إيجابيات التحرر والتعبير عن الذات، لكنه حمل أيضًا سلبيات الفوضى نتيجة غياب آليات التنظيم الديمقراطي.
بسبب انفلات المارد من كل إنسان مكبوت ومنسحق، صاح البعض أن المعايير الأخلاقية تدهورت، لأن العامة والدهماء وأولاد الشوارع خرجوا عن قواعد السادة واضعي تلك المعايير. وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، واتساب، انستجرام، إيمو، يوتيوب) في تفتيت البقية الباقية من وهم المجتمع المصري المهندس سابقًا. الفوضى طبيعية جدًا في بدايات الحرية، خاصة لمجتمع ذي أعداد كبيرة وزحمة، ومقيد بقيود شكلية على كل المستويات حتى المستوى الديني.
العلمانية العملية: فوضى التحرر وبناء المستقبل
بناءً على ما ذُكر، مارس الجميع العلمانية التي أُطلقت عليها "العلمانية العملية"، أي علمانية دون أي أسس فكرية. هذا التطبيق التلقائي لمبدأ "لا وصاية لأحد على أحد" فرضه الميدان، بغض النظر عن الوعي النظري بالعلمانية. هذا لأن الكل جاهل بالعلمانية، وربما لم يسمعوا عنها بسبب الجهل العادي أو المركب أو عدم الثقافة على أي مستوى.
ردًا على أصحاب العنتريات اللفظية وأصحاب الفضيلة الوهمية والأخلاق المزعومة الذين سينبرون ضد المقال لأنه مزّق ورقة التوت الخاصة بهم، نقول: من الحصافة معرفة أن القيود التي فُرضت على المجتمع المصري عديدة. فعند كسرها، لا بد أن يحدث ضجيج وفوضى عارمة حتى نصل بعدها إلى بر الأمان لوضع العقد الاجتماعي الجديد على أسس يناير.
ملحوظة:
3 يوليو 2013 كانت صورة منعكسة من يناير ومكملة لها، حيث كانت محاولة للتحكم في مسار هذا المارد الذي خرج.
العلمانية، كما عرفها الدكتور المسيري، هي "علمانيتان لا علمانية واحدة. الأولى جزئية ونعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، والثانية شاملة ولا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، لا عن الدولة فحسب، وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص، بحيث تُنزع القداسة عن العالم".