لا معرفة بلا مصطلح- أزمة المصطلح: عقبة أمام الفهم المشترك

لا معرفة بلا مصطلح

أزمة المصطلح: عقبة أمام الفهم المشترك

==================



إن مشكلة "أزمة المصطلح" تُعد بحق من أبرز التحديات التي تواجه أي حوار جاد أو تحليل معمق لقضايانا المختلفة، سواء كان ذلك على مستوى النخبة المثقفة أو عامة الناس. فكيف لنا أن نناقش قضايا مصيرية مثل "الإصلاح السياسي" أو "العدالة الاجتماعية" أو "الهوية الوطنية" إذا كان كل طرف من أطراف النقاش يحمل تصورًا مختلفًا، وربما متناقضًا، لهذه المفاهيم الأساسية؟ غالبًا ما نلاحظ في سياق الحديث عن قضية ما، استخدام كلمات تتسم بالفضفاضة والغموض، وربما تحمل معاني لا تتطابق مع المقصود بها، بل قد تعكسه تمامًا.

إزاء هذه الإشكالية المتفاقمة، يثور التساؤل الأساسي: ما هو المصطلح ابتداءً؟

لقد أولى علماء "المصطلح" اهتمامًا خاصًا بتحديد المقصود بالرمز اللغوي الذي يدل على المفهوم، وقاموا في هذا السياق بالتمييز بين ثلاثة أنواع رئيسية من الرموز اللغوية، وهي:

  • الكلمة: تتميز بتعدد معانيها واحتمالية وجود ظلال دلالية غير محددة. وتُستخدم بشكل أساسي لتسمية الأشياء، ويعتمد فهم معناها بشكل كبير على السياق الذي ترد فيه.
  • المصطلح: يمثل رمزًا لغويًا يُستخدم للدلالة على مفهوم معين بدقة وتحديد.
  • القاموس: يمكن أن يكون القاموس عبارة عن مصطلح أو اسم يُستخدم بهدف استرجاع المعلومات أو فهرستها ضمن نظام خاص. ويعتمد معناه هنا على نظام المعلومات المرتبط به، وتستند مسمياته المفردة إلى نظام المعلومات ذاته لا إلى منظومة المفاهيم المجردة.

وفي اللغة العربية، تتداخل دلالة كلمتي "مصطلح" و "اصطلاح"، وهما مشتقتان من الفعل "اصطلح" (الذي يرجع إلى الجذر "صلح")، والذي يحمل معنى "اتفق". ويعكس هذا الاشتقاق طبيعة المصطلح أو الاصطلاح، حيث يدل على اتفاق مجموعة من المتخصصين في مجال ما على استخدامه للتعبير عن مفهوم علمي أو فكري محدد بدقة. ومن اللافت للنظر أن المتفحص للمؤلفات العربية التراثية يجد استخدامًا لكلا اللفظين ("مصطلح" و"اصطلاح") كمترادفين. وقد ورد تعريف "الاصطلاح" بأنه "اتفاق القوم على وضع الشيء، وقيل: إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى معنى آخر لبيان المراد".

تتجلى الأهمية القصوى للمصطلحات في كونها "مفاتيح العلوم"، كما عبر عن ذلك بحكمة العالم الخوارزمي. بل لقد قيل بحق إن "فهم المصطلحات نصف العلم"، وذلك لأن المصطلح ما هو إلا لفظ يُعبر عن مفهوم، والمعرفة في جوهرها عبارة عن مجموعة من المفاهيم التي يرتبط بعضها ببعض في شكل منظومة متكاملة. وفي عصرنا الحالي، الذي يوصف بأنه "مجتمع المعلومات" أو "مجتمع المعرفة"، ازدادت أهمية المصطلح وتعاظم دوره بشكل غير مسبوق، حتى إن الشبكة العالمية للمصطلحات في فيينا بالنمسا اتخذت شعارًا بليغًا يعكس هذه الأهمية وهو "لا معرفة بلا مصطلح".

لكن، على أرض الواقع، نواجه تحديًا حقيقيًا يتمثل في أزمة المصطلح. ففي نقاشاتنا السياسية، على سبيل المثال، يُستخدم مصطلح "الإصلاح" بمعانٍ شتى ومتضاربة، فقد يعني لدى البعض تغييرات جذرية في بنية النظام، بينما يراه آخرون مجرد تعديلات طفيفة. وبالمثل، فإن مفهوم "الديمقراطية" يحمل تصورات مختلفة تتراوح بين الديمقراطية التمثيلية المحدودة والديمقراطية التشاركية الواسعة. وفي المجال الاجتماعي، تثير مفاهيم مثل "الهوية" و "التطرف" جدلاً واسعًا بسبب عدم الاتفاق على تعريفات واضحة ومحددة لها. وحتى في حياتنا اليومية، قد تنشأ خلافات بسيطة بسبب فهم أطراف الحوار لكلمات عادية بمعانٍ مختلفة.

تتعدد الأسباب الكامنة وراء تفاقم أزمة المصطلح في عصرنا الحالي. فمع تداخل الثقافات والعولمة، تنتقل المفاهيم والمصطلحات بين لغات وبيئات فكرية متنوعة، وغالبًا ما يصاحب هذا الانتقال تشويه أو اختلاف في الفهم. كما أن التطور السريع للمعرفة يؤدي إلى ظهور مفاهيم جديدة بوتيرة متسارعة، قد لا يواكبها اتفاق سريع على مصطلحات دقيقة للتعبير عنها. ولا يمكن إغفال التأثير الأيديولوجي والسياسي، حيث تستخدم الأطراف المختلفة المصطلحات بشكل استراتيجي لتحقيق أجندات معينة، مما يؤدي إلى تلاعب مقصود بالمعاني. ويُضاف إلى ذلك سطحية النقاش العام ووسائل الإعلام التي قد تركز على الإثارة والتبسيط على حساب الدقة اللغوية. وأخيرًا، يبرز غياب المرجعية الموحدة القادرة على وضع معايير واضحة للمصطلحات في مختلف المجالات كأحد العوامل المساهمة في هذه الأزمة.

لمواجهة هذه الأزمة وتجاوز عقبة المصطلح أمام الفهم المشترك، يصبح من الضروري تبني مجموعة من الاقتراحات العملية. أولاً، يجب التأكيد على أهمية التحديد الدقيق للمصطلحات قبل الخوض في أي نقاش جاد. ثانياً، ينبغي تعزيز ثقافة الاستماع الفعال والسؤال عن المقصود، وتشجيع الأفراد على طلب توضيح لمعاني المصطلحات التي تبدو غامضة. ثالثاً، يقع على المؤسسات التعليمية والبحثية دور كبير في تدريس منهجيات البحث المصطلحي وتنمية الوعي بأهمية الدقة اللغوية لدى الطلاب والباحثين. رابعاً، تتحمل وسائل الإعلام مسؤولية الالتزام بالدقة في استخدام المصطلحات وتجنب التبسيط المخل الذي يشوه المعاني. وأخيرًا، لا بد من تشجيع الحوار المتخصص بين الخبراء للوصول إلى توافقات حول المصطلحات الأساسية في كل مجال.

ختامًا، إن أزمة المصطلح ليست مجرد إشكال لغوي عابر، بل هي عائق حقيقي يقف في وجه بناء مجتمعات واعية وقادرة على التواصل الفعال وفهم التحديات المشتركة. لذا، فإن تضافر الجهود لمواجهة هذه الأزمة وتأصيل ثقافة الدقة اللغوية يصبح ضرورة ملحة لتحقيق حوارات مثمرة وبناء مستقبل أفضل.



التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.