فيلم "آسف على الإزعاج" يُعد عملًا سينمائيًا غير عادي، تكمن فرادته في فكرته الباهرة التي تتمحور حول رفض الواقع والانغماس في الماضي، لدرجة إلغاء الحاضر، وبالتالي المستقبل. يتميز بالتعمق في تحليل فكرة رفض الواقع وتجلياتها المختلفة في الفيلم، سواء على مستوى الشخصية الرئيسية أو كرمز لحالات اجتماعية أوسع.
وحتى يُقنع البطل نفسه بأنه على الطريق الصحيح، قام بخلق عالم خاص به يعيش فيه، بالإضافة إلى معاناته من هلاوس سمعية وبصرية. يمكن هنا تقديم مثال محدد من الفيلم لتوضيح طبيعة هذه الهلاوس وتأثيرها على البطل.
ولتعزيز اقتناعه بهذا العالم الافتراضي الوهمي، استدعى فكرة المؤامرة الكونية ضده، انطلاقًا من اعتقاده بأنه يسعى لإصلاح العالم، وبالتالي فإن العالم بأكمله يقف في وجهه. هذا يمنحه دور الضحية، ويستدر به عطف الآخرين، بينما يُصنف أي شخص يعارضه ككاره، أو حاقد، أو جاهل. الربط بين فكرة الفيلم وحالات "الجيتو الفكري" يُضفي على التحليل بعدًا أعمق وأكثر أهمية.
تُجسد هذه الفكرة حياة الملايين من أصحاب "الجيتو الفكري" المنغلق، الرافضين لأي أفكار خارج نطاق التابوهات التي يعشقونها، والأصنام الفكرية التي يدورون حولها ليل نهار.
بعيدًا عن قصة الفيلم الظاهرية حول موت الأب ورفض الابن الاعتراف بذلك، يمكننا استخلاص أفكار مجردة وتسليطها على جوانب مختلفة من حياتنا، لنرى العجب العجاب.
إحدى هذه الأفكار هي أن رفضك لواقع ما لا يُلغي الواقع ذاته، بل هو هروب خانع منه. هذا الرفض ليس إلا انسحاقًا مقيتًا ومميتًا، لأن الرفض الحقيقي يتجلى في محاولة تغيير الواقع بالمعرفة الحقيقية والثقافة العميقة، وليس بثقافة المعلبات الجاهزة.
لا شك أن صناع العمل كانوا مخلصين للفكرة، وهو ما انعكس في التنفيذ الهادئ الذي تجنب الصراخ والعويل، لكنه نجح في تسريب الفكرة بنعومة بالغة لتترسخ في ذهن أي مُشاهد، بغض النظر عن مستوى ثقافته. هناك توازن جيد في تقدير جميع عناصر العمل الفني.
وقد تضافر الإبداع بين جميع صناع العمل:
- الكاتب أيمن بهجت قمر: الذي قدم سيناريو مُحكمًا وحوارًا أكثر من رائع.
- المخرج خالد مرعي: الذي أبدع كادرات هادئة ومريحة للعين، مع فخامة وغنى من الناحية التشكيلية. وقد كان مُبهرًا في لقطة الفرح التي تيقن البطل بعدها أنه يرى وهمًا في خياله، من خلال تجسيد المشهد ذاته على أرض الواقع الوهمي في خيال البطل، وتقديمه بشكل حقيقي على شاشة العرض. التركيز على مشهد الفرح كمثال على براعة الإخراج في تجسيد الوهم والواقع كان موفقًا جدًا.
- الموسيقى التصويرية لعمرو إسماعيل.
- النجوم أحمد حلمي ومحمود حميدة ومنة شلبي: الذين قدموا أداءً فاق الإبداع، حيث تجلى الخيال النابع من اقتناعهم العميق بالفكرة لدرجة التماهي مع الشخصيات التي جسدوها.
فيلم "آسف على الإزعاج" بحق عمل سينمائي سيحفظ في ذاكرة السينما لسنوات عديدة. يمكن هنا إضافة بعض الجمل التي توضح لماذا سيظل الفيلم محفوظًا في الذاكرة السينمائية، مثل تأثيره على المشاهدين أو تناوله لقضايا إنسانية عميقة.
ملحوظة:
مشاهد الفنان العبقري محمد شرف تستحق الدراسة في المعاهد المتخصصة، كنموذج لفكرة الانتظار القاتل للحياة، والفهم الخاطئ للرضا، وأيضًا البحث عن الأُنس مع أي شخص، حتى لو كان غريبًا. إبراز أهمية مشاهد محمد شرف وأهميتها الدلالية يُعد إضافة قيمة للمقال، حيث يسلط الضوء على أداء ممثل ترك بصمة رغم قلة ظهوره. وبالطبع، لا يمكن إغفال الأداء المبهر من هذا الممثل العظيم الذي ظهر في السينما كشهاب ثم اختفى سريعًا، لكن أثره سيظل باقيًا لسنوات وسنوات.