بعيدا عن التطبيع
المصالحة الخليجية من منظور
ثقافي
====================
الأزمة الدبلوماسية مع قطر (يونيو 2017 - العلا 2021): وقائع وتحليل للآثار
البداية: قطع العلاقات الدبلوماسية
في الخامس من يونيو عام 2017، اتخذت كل من المملكة العربية السعودية، ومملكة البحرين، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وجمهورية مصر العربية قرارًا بقطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر. تبع هذا القرار لاحقًا حكومة اليمن، وجزر المالديف، وجزر القمر. وفي اليوم التالي، السادس من يونيو 2017، أعلنت هذه الدول عن الأسباب الموجبة لمقاطعتها.
الأسباب المعلنة وتفنيدها القطري:
تعود جذور الأزمة إلى مارس 2014، حين سحبت السعودية والبحرين والإمارات سفراءها من الدوحة بسبب ما وصفوه بـ "عدم التزام الدوحة بمقررات تم التوافق عليها سابقًا في مجلس التعاون الخليجي". يُعتقد أن من أبرز هذه الخلافات كان الموقف القطري من عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي في مصر بعد أحداث 30 يونيو 2013، والذي يراه الإعلام القطري "انقلاب 3 يوليو". كما تضمنت الأسباب المعلنة دعم قطر لما اعتبرته الدول المقاطعة "الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة" وما تراه قطر "ثورات الربيع العربي"، وعلاقات الدوحة مع جماعة الإخوان المسلمين التي تصنفها الإمارات والسعودية كجماعة "محظورة ومتطرفة". بالإضافة إلى ذلك، كان هناك خلاف حول التغطية الإعلامية لقناة الجزيرة لبعض الأحداث، والتي رأتها الدول المحتجة "تحريضًا وإعلامًا موجهًا"، والخلاف حول سبل مكافحة الإرهاب، مع اتهام قطر بعدم بذل الجهد الكافي أو حتى بتمويل جماعات العنف ومنحها منابر إعلامية. أخيرًا، كانت طبيعة العلاقات القطرية مع إيران نقطة خلافية أخرى. في المقابل، نفت قطر مرارًا هذه الاتهامات، مؤكدة على استقلالية سياستها الخارجية وحرصها على علاقات متوازنة مع جميع دول المنطقة، بما في ذلك إيران، مشددة على دورها في دعم حركات التحرر الوطني التي تراها الدول الأخرى تهديدًا للاستقرار.
تصاعد التوتر في مايو 2017، عندما بثت وكالة الأنباء القطرية تصريحات منسوبة لأمير قطر انتقد فيها ما وصفه بـ "المشاعر المعادية لإيران". سارع المسؤولون القطريون إلى نفي هذه التصريحات، متهمين "قراصنة" باختراق الوكالة الرسمية. ومع ذلك، زادت حدة الانتقادات السعودية والإماراتية بعد اتصال الشيخ تميم بالرئيس الإيراني حسن روحاني، وهو ما اعتبر تحديًا للمملكة.
في سياق متصل، أعلنت الحكومة القطرية في مايو 2017 عن تعرض موقع وكالة الأنباء القطرية ومنصات إعلامية حكومية أخرى للاختراق. وذكرت قناة الجزيرة أن قراصنة نشروا تصريحات وهمية منسوبة لأمير قطر أعرب فيها عن تأييده لإيران وحماس وحزب الله وإسرائيل، ونُقل عنه قوله إن إيران تمثل "ثقلاً إقليميًا وإسلاميًا لا يمكن تجاهله" وأن "التصعيد معها ليس من الحكمة". نفت قطر هذه الأخبار بشدة ووصفتها بـ "الكاذبة". ورغم ذلك، تجاهلت وسائل الإعلام السعودية والإماراتية نفي الحكومة القطرية وتناولت التصريحات المنسوبة للأمير على نطاق واسع. وفي 3 يونيو 2017، تعرض حساب وزير الإعلام البحريني خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة في تويتر للاختراق.
في المراحل الأولى من التحقيقات، أشارت معلومات استخباراتية أمريكية إلى تورط قراصنة روس في عملية الاختراق الأولية التي أبلغ عنها القطريون. ومع ذلك، صرح مسؤول أمريكي لصحيفة نيويورك تايمز بأنه لم يتضح ما إذا كان القراصنة يعملون تحت رعاية دولة أم لا. وقد أرسل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) فريقًا من المحققين إلى الدوحة لمساعدة قطر في التحقيق في حادث القرصنة المزعوم.
قناة الجزيرة وتسريبات البريد الإلكتروني:
في مايو 2017، تم تسريب رسائل من البريد الإلكتروني لسفير دولة الإمارات العربية المتحدة في الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، واعتُبرت هذه المراسلات "محرجة" لاحتوائها على مراسلات مع مؤسسة إسرائيلية تدعى "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات". قامت قناة الجزيرة وهافينغتون بوست عربي بتغطية هذه التسريبات، وهو ما اعتبرته الدول المقاطعة "استفزازًا" وتعميقًا للخلاف. وفي 9 يونيو، تعرضت شبكة الجزيرة الإعلامية لهجوم إلكتروني شامل على جميع منصاتها.
الحملات الإعلامية والمطالب:
عقب قطع العلاقات، شنت وسائل الإعلام والنخب في الدول المقاطعة حملة واسعة لتعداد ما وصفوه بـ "مساوئ" دولة قطر، مما خلق لدى الرأي العام تصورًا بأن هذه الدولة الصغيرة تمثل قوة تخريبية كبرى في المنطقة. وبعد عدة أيام، ظهرت قائمة المطالب التي قدمتها الدول المقاطعة لقطر عبر دولة الكويت التي تولت وساطة لحل الأزمة.
المطالب الرسمية (وفقًا للتسريبات):
في 22 يونيو 2017، سلمت الكويت قائمة من 13 مطلبًا من الدول الأربعة (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) إلى قطر، مع مهلة عشرة أيام لتنفيذها. تم تسريب هذه المطالب لاحقًا، وتبادل الطرفان الاتهامات بشأن المسؤولية عن التسريب. تضمنت المطالب (كما وردت سابقًا في النص الأصلي).
الآثار ورفض المطالب وجهود الوساطة:
رفضت دولة قطر بشكل قاطع جميع الشروط التي فرضتها دول المقاطعة، معربة عن استنكارها الشديد لما وصفته بـ "المزاعم والاتهامات" التي وردت في بيان دول الحصار دون أي دليل. ونفت قطر موافقتها على تلبية المطالب الـ 13، مؤكدة أن الاتهامات بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو تمويل الإرهاب هي "افتراءات لا أساس لها من الصحة" وتخالف مرتكزات سياستها القائمة على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، بالإضافة إلى اعتراف المجتمع الدولي بجهودها في مكافحة الإرهاب.
في خضم الأزمة، لعبت دولة الكويت، بقيادة أميرها الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح ومن بعده الشيخ نواف الأحمد الجابر المبارك الصباح، دورًا محوريًا في جهود الوساطة. واجهت هذه الجهود تحديات كبيرة بسبب تصلب مواقف الأطراف، إلا أن الإصرار الكويتي على إيجاد حل سلمي استمر. تضمنت الوساطة لقاءات مكثفة بين قادة الدول المعنية ومبعوثين دوليين، سعيًا لتقريب وجهات النظر وتحديد نقاط اتفاق مشتركة. كما دخلت تركيا على خط الأزمة بتوقيع اتفاقيات مع قطر، من أهمها إنشاء قاعدة عسكرية تركية في الدوحة، وهو ما اعتبره البعض رسالة دعم قوية لقطر.
اتفاقيات العلا ونهاية الأزمة:
تكللت جهود الوساطة الكويتية بالنجاح في النهاية، حيث تم التوصل إلى اتفاقيات العلا التي وُقعت في يناير 2021 خلال القمة الخليجية التي استضافتها المملكة العربية السعودية. شملت هذه الاتفاقيات إنهاء المقاطعة وعودة العلاقات الدبلوماسية والتجارية والسفر بين قطر والدول الأربع. تم الاتفاق على تجاوز الخلافات والتركيز على المصالح المشتركة وتعزيز وحدة مجلس التعاون الخليجي.
تحليل آثار الأزمة على المستويات المختلفة:
سياسيًا: المقاطعة أداة مشروعة في العلاقات الدولية للتعبير عن اختلاف الرؤى، إلا أن طول أمد الأزمة وتداعياتها الإقليمية أثارت تساؤلات حول جدواها وتأثيرها على وحدة الصف الخليجي.
ثقافيًا: كشفت الأزمة عن انقسام حاد في المشهد الثقافي والإعلامي العربي. ظهرت اصطفافات واضحة بين المثقفين والإعلاميين، حيث تبنى الكثيرون روايات دولهم ووجهوا انتقادات حادة للطرف الآخر. أدت هذه الانقسامات إلى شرخ في الحوار الثقافي وتبادل الاتهامات، مما أثر سلبًا على المصداقية والحيادية في بعض وسائل الإعلام والنخب الفكرية.
إعلاميًا (الميديا والذباب الإلكتروني): شهدت منصات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام حملات تشويه وتضليل واسعة. انتشرت المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة، واستُخدمت حسابات وهمية ولجان إلكترونية لتوجيه الرأي العام وتأجيج الخلافات. تجلى ذلك في تبني لغة حادة واتهامات متبادلة، مما أثر على جودة النقاش العام وعمق الانقسامات بين المستخدمين.
الشعب ووسائل التواصل الاجتماعي: عكست آراء رواد وسائل التواصل الاجتماعي الانقسام الحاد في المواقف. ظهرت تعبئة واسعة للمشاعر الوطنية والمذهبية، وتبني روايات متعصبة تجاه الأطراف الأخرى. انتشرت نظريات المؤامرة والمبالغات في توصيف الأحداث، مما يعكس في بعض الأحيان نقصًا في المعلومات الموضوعية والتحليل المتعمق.
ختامًا: كشفت الأزمة الدبلوماسية مع قطر عن تحديات عميقة تواجه المنطقة على صعيد العلاقات بين الدول، ودور الإعلام والثقافة في تأجيج أو تهدئة الصراعات. وبينما مثلت اتفاقيات العلا خطوة مهمة نحو تجاوز هذه الخلافات، فإن الآثار التي تركتها على المستويات السياسية والثقافية والإعلامية والاجتماعية قد تستغرق وقتًا للتعافي الكامل. يبقى الدرس الأهم هو ضرورة تغليب الحوار العقلاني والمنطق الموضوعي في إدارة الخلافات وتعزيز التفاهم المشترك بين شعوب المنطقة.