أصغر فرهادي
يُعرّي "أمراض" المجتمعات من خلال قصص إنسانية مُؤلمة
=======
مقدمة:
حين يمسك المخرج الإيراني القدير أصغر فرهادي بزمام حكاية تدور أحداثها في ريف إسبانيا، فإننا أمام عمل يتجاوز المحلية ليلامس جوهر الإنسانية. فرهادي، المسكون بهموم مجتمعه وإن عبّر عنها بلغات أخرى، يُقدم لنا هنا فيلمًا يبدو بسيطًا في ظاهره – قصة اختطاف ابنة خلال حفل زفاف عائلي – لكنه سرعان ما يتحول إلى تشريح دقيق لعلل اجتماعية تُلقي بظلالها القاتمة على حياة أفراد عاديين يكافحون من أجل البقاء والكرامة.
بين بساطة الحبكة ومعاناة البشر:
تأتي الابنة الكبرى من الأرجنتين لحضور زفاف أختها، مصحوبة بابنتها الشابة وابنها الصغير. لكن فرحة العائلة الريفية الهادئة سرعان ما تنقلب إلى كابوس باختطاف الابنة الشابة. رحلة البحث المضنية عن الفتاة لا تكشف لنا فقط عن خيوط مؤامرة قذرة، بل تُعرّي أيضًا هشاشة العلاقات الإنسانية وتأثير الظروف الاجتماعية القاسية على أحلام وآمال هؤلاء البشر.
شخصيات مُحمَّلة بالضعف والأمل:
تبرز القرية في الفيلم كنموذج مُصغَّر لمجتمعات عديدة تعاني من الفقر، لكن فرهادي لا يركز فقط على العلل، بل يُضيء أيضًا على صراعات الأفراد داخل هذا الواقع. صاحب المزرعة، على سبيل المثال، ليس مجرد رمز للعمل، بل هو رجل قضى سنوات في استصلاح الأرض، يحمل في قلبه أملًا بمستقبل أفضل لنفسه ولعائلته، ويُصدم بواقع الحسد والجشع الذي يحيط به. نشاهد معاناته الصامتة وهو يرى ثمرة جهده مهددة بسبب أطماع الآخرين.
أما الفقراء الثرثارون، فخلف كلماتهم الجوفاء قد تكمن قصص يأس وإحباط عميق من عدم القدرة على تغيير ظروفهم. والحقد الذي يدفع الخاطف إلى جريمته ربما يكون نابعًا من شعور دفين بالظلم والتهميش. حتى الجد، الذي يمثل ثراء الماضي وتبديده، يمكننا أن نتلمس فيه بقايا كبرياء مكسور وندم خفي على قراراته.
الأب المتواكل، برغم سلبيته الظاهرة، يعكس يأسًا عميقًا وشعورًا بالعجز أمام المصيبة التي حلت بابنته، ولجوؤه للدين هو صرخة مكتومة طلبًا للعون والسلوى. نشعر بوطأة المسؤولية الملقاة على عاتقه كأب، وعجزه عن حماية ابنته بالطرق المادية. والجدة الصامتة تحمل في صمتها عبء معرفة الحقيقة والخوف من البوح بها، خوف يعكس ضعف الأفراد أمام سلطة الأعراف والخوف من العواقب. نرى في عينيها قلق الأم وعجزها عن التدخل. أما الزوجة الصريحة، فتواجه نبذًا اجتماعيًا بسبب شجاعتها في قول الحقيقة، مُظهرة الوحدة القاسية التي قد يدفع ثمنها من يجرؤ على كسر حاجز الصمت. نلمس في إصرارها ألمها لرؤية مجتمعها يتستر على الكذب.
نهاية مُعلِّقة بين العدالة والأمل الإنساني:
ينتهي الفيلم بمشهد عمال النظافة والصليب، ليطرح تساؤلات حول إمكانية التغيير والتطهير. لكن الأهم من ذلك، أنه يتركنا مع صور إنسانية مُعذبة، نتذكر وجوههم وقصصهم، ونشعر بوطأة الظروف التي قادتهم إلى هذا المصير. حتى اللحظة الأخيرة بنداء الأم المكلومة، نشعر بصدى ألمها الإنساني العميق.
جماليات هادئة وتركيز على المشاعر الإنسانية:
يتميز الفيلم بجمالياته الهادئة التي تسمح للمشاعر الإنسانية بالبروز والتأثير. أداء الممثلين الرائع ينقل إلينا ضعفهم وقوتهم، يأسهم وأملهم الخافت.
في جوهر الفيلم: صرخة إنسانية في وجه القسوة الاجتماعية:
في نهاية المطاف، يُقدم لنا فرهادي ليس فقط تحليلًا للعلل الاجتماعية، بل أيضًا نظرة عميقة إلى معاناة الأفراد داخل هذه المنظومة. إنه فيلم عن هشاشة الإنسان وقدرته على التحمل في وجه الظروف القاسية، وعن الحاجة الدائمة للأمل والبحث عن الحقيقة.
صناع العمل:
- المخرج والسيناريو: أصغر فرهادي
- الممثلون: خافيير باردم، بينيلوب كروز (وآخرون)