واحة الغروب ويناير = عندما ينطق الصمت بلغة الحرية والإبداع

 

واحة الغروب

  • عندما ينطق الصمت بلغة الحرية والإبداع

========



نحن أمام عمل شديد الثراء من عدة نواحي، حيث طبيعة المسلسل ومكان الأحداث جعلا أصحاب الإبداع ينطلقون نحو آفاق لم نعهدها من قبل كثيرًا. البداية من الكاتب القدير يحيى طاهر، الذي كان اختيار ثورة عرابي كمدخل للولوج إلى أبواب الحرية، سواء على مستوى المجتمع أو الأفراد، اختيارًا موفقًا. فتلك الحقبة التاريخية تحمل في طياتها بذرة التوق للتحرر، وفشلها قد يمثل إشارة مبكرة إلى صعوبة تحقيق التحرر في مواجهة قوى النفوذ، ويثير إسقاطات محتملة على واقعنا المعاصر.

السيناريو والحوار، اللبنة الأولى في سبيكة الإبداع، كان شديد الذكاء في المحاورات الذاتية باللغة العربية الفصحى، مما أضفى عمقًا على الصراع الداخلي للشخصيات. رسم الشخصيات بطريقة ملتبسة للغاية وتجريدها من الزمان والمكان مكّن المتلقي من أن يرى نفسه بإحدى الشخصيات، وفتح المجال لتفسيرات متعددة حول عالمية الصراع بين الحرية والقمع، وربما كسر الأنماط التقليدية للشخصيات الدرامية. الفكرة ببساطة شديدة جدًا هي الصراع بين الحالمين بالحرية وأصحاب المصالح والنفوذ - الصراع بين الأرواح التواقة للانعتاق من العبودية بكل أشكالها والنفوس المريضة التي تتغذى على آهات المقهورين.

فنجد ثلاث نماذج للأرواح التواقة للحرية: الضابط محمد عبد الظاهر وكاترين، ولكن هُزِموا وأصبح هناك صراع ذاتي بين ما هو مأمول وما هو واقعي، فكان الفشل الذاتي وانعدام الحياة. والنموذج الثالث، مليكة العاشقة المحبة للحياة التي تراها دون النظر للعواقب التي تقع عليها من المجتمع المتمثل في العادات والتقاليد، لدرجة أنها دفعت حياتها في سبيل ممارسة حريتها. يمكن رؤية مليكة هنا كرمز أبعد من مجرد التمرد، فهي تجسد الروح الإنسانية المتوقة للحياة بجمالها وبراءتها، والتي تصطدم بواقع مجتمعي قاسٍ، وموتها قد يمثل انتصارًا مؤقتًا لقوى القمع أو إيقاظًا لضمائر أخرى.

نأتي إلى سبيكة الإبداع من كوكبة النجوم الساطعة في سماء الجمال، تبدأ بمهندس الديكور، فنجد لوحات فنون تشكيلية حقيقية ناطقة بعبق التاريخ والبيئة التي تبوح بأسرارها لمن يريد أن يسمع، تحية حارة لأحد أسباب نجاح المسلسل.

نأتي إلى المبدع الغير عادي الموسيقي تامر كروان، المؤلف الموسيقي، فنجده أخذ من التراث في التتر ولكن التناول مختلف تمامًا ("سافر حبيبي وجاء خلي يودعني" و"بل المحارم") ليفتتح الإبداع مع إضافة غناء جنائزي لمطرب إيراني قديم. ونظرًا لطبيعة الصراع العام بالمسلسل والصراع النفسي للشخصيات المهزومة، فكانت الموسيقى معبرة لأقصى مدى، لأنها أصبحت عنصرًا في سبيكة الإبداع وليست مجرد حلية تزين الإطار الجميل، وربما كانت لغة خفية تعبر عن الأحداث والمشاعر في لحظات فاقت فيها التعبير اللفظي.

إلى دور الإضاءة، لأنها فرصة لا تتكرر كثيرًا من حيث استخدام الإضاءة المتحركة والظلال النابعة منها التي تعبر عن حالات الصراع سواء في النور أو في الظلمة، وربما كانت هناك أنماط محددة للإضاءة مرتبطة بشخصيات أو مراحل صراع معينة ساهمت في خلق جو نفسي مميز. مدير التصوير أبدع في اختيار زوايا التصوير الواسعة لنرى جمال الطبيعة الساحرة التي تنطق بالحرية، وربما حملت لقطات الطبيعة دلالات رمزية أعمق تتعلق بالحرية أو القيود. الملابس كان أمينًا في نقل ملابس الزمن الغابر، وخاصة ملابس الضباط، وأيضًا الأجانب بالمسلسل كاترين وأختها.

الإخراج لكاملة أبو ذكري، وما أدراك من هي كاملة! إخراج الحلقة الأولى كان أقرب إلى العالمية، أما باقي الحلقات فكانت المايسترو الوعي للتفاصيل الصغيرة بانضباط، فلم نجد نشاذًا من أي العناصر؛ لأنها كانت مسيطرة على أدواتها حتى تخرج لنا تلك السبيكة في أبهى صورة لنا، وربما كان هناك رسالة أو رؤية موحدة أرادت المخرجة إيصالها من خلال هذا التناغم.

نأتي إلى جواهر العمل، نبدأ بالأستاذ أحمد كمال، الأداء الهادئ الراسخ من مدرسة السهل الممتنع، ووجدنا (الشيخ يحيى) ولم نرَ أحمد كمال أي لحظة؛ لأنه داخل الشخصية بشكل رائع. ونذهب إلى المفاجأة في مسلسل كله ملكية، تفاهم لطبيعة الدور التي تمثل نموذج الحرية والطائر الذي يصدح بخلاف كل الأسراب السائدة؛ لذا لم نجد لها ملامح أنثوية، بل وجدنا ملامح إنسانية على مستوى الشكل، أما المضمون فكانت الضاحكة لحظات الألم، إنها تمثل الأمل والنموذج المتمرد على التقاليد البالية والأفكار العفنة، فكانت الضحكات نوعًا من السخرية للقاهرين عليها لتقهرهم هي. منة شلبي أصبحت ممثلة من العيار الثقيل؛ لأنها بذلت مجهودًا غير عادي للحفاظ على طبقة الصوت وطريقة النطق، بخلاف التعبير عن الصراعات مع زوجها أو المجتمع أو نفسها. نأتي إلى جوهرة السبيكة الإبداعية، الأستاذ خالد النبوي، أراه في دور عمره من حيث المساحة الغير عادية للتعبير عن الشخصية الحالمة المقهورة الخاضعة المهزومة، وكان الأداء بانضباط يليق بالشخصية، فلا يوجد تهاون ولا تهويل؛ لأنه يمثل السلطة التي يكرهها وذاته الحالمة المكسورة، فوجدنا التوازن بين ذاك بأسلوب متفرد. هذا الأداء المتقن ساهم في جعل الشخصيات أكثر إنسانية وقربًا من المشاهد، وبالتالي تعميق تأثير الصراع الدرامي.

نأتي لفكرة حضرتني وأنا أشاهد المسلسل: هل مليكة تمثل يناير؟ والضابط محمود يمثل شباب يناير؟ وأهل سيوة يمثلون حزب الكنبة؟ أم أنني أتوهم هذا؟ خاصة أن أحد أسباب قتل مليكة هو الضابط محمود برعونته، وعندما لم يتحمل ضميره هذا، نسف قسم الشرطة الذي يمثل السلطة. هذه الفكرة تفتح آفاقًا جديدة لفهم العمل وربطه بأحداث اجتماعية وسياسية معاصرة، وتثير تساؤلات حول قصد صناع العمل من هذا التشابه المحتمل ودور الفن في استيعاب وتحليل الواقع.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.