Mulholland Drive
حين يصبح الوهم سجنًا
==============
فيلم خاص جداً لأصحاب الذوق العالي المبني على ثقافة جادة
لأنه ينطلق بنا من أعماق اللاوعي الإنساني عبر دهاليز الأحلام، يكشف لنا ما قد نخفيه حتى عن أنفسنا وعن أقرب الناس.
هذا الفيلم رحلة استثنائية إلى جغرافية المشاعر الإنسانية بكل ما فيها من تعقيدات وتناقضات، وقد نجد فيه انعكاسًا لضياعنا وتوهاننا في بعض جوانب الواقع.
لنا وقفة تأمل أمام هذه الأيقونة السينمائية.
إنه ليس مجرد فيلم تقليدي بقصة خطية وبداية وعقدة ونهاية متوقعة، بل هو عمل فني فريد اتخذ من نفسه مرآة صادقة، لنرى فيها ذواتنا بوضوح، دون أي محاولة لتجميل الواقع أو تزييف حقائقه.
الواقع يخبرنا بصراحة: حين نفتقد الموهبة التي تضعنا في الصفوف الأولى، غالبًا ما نلجأ إلى أحلام اليقظة أو النوم، حيث نرى أنفسنا ضحايا لمؤامرات الآخرين، سواء كانوا مقربين أو المجتمع بأسره. نتخيل أن هناك قوى تسعى لسلبنا حقوقنا، لأننا في نظر أنفسنا الأجدر والأحق بما نفقده. لكن الفيلم يواجهنا بحقيقة قد تكون مؤلمة: أننا في كثير من الأحيان مجرد واهمين حالمين بعيدين عن الواقع.
ليس من المستغرب أن تتصدر قناة «BBC» الثقافية، بعد استفتاء شمل 177 ناقدًا عالميًا، فيلم «Mulholland Drive» لديفيد لينش قائمة أفضل 100 فيلم في القرن الحادي والعشرين. ليس لأنه "الأعظم" بالمعنى المطلق، بل لأنه تجرأ وقال ما صمت عنه الكثيرون.
لقد تأسس الفيلم بشكل محوري على حلم البطلة في يقظتها، ثم تعمق فيه في عالم المنام.
وهنا يبدأ التشريح الدقيق للنفس البشرية والعقل الذي يرفض استيعاب الحقائق الصعبة، ومن بين هذه الحقائق:
- قوانين المدينة القاسية التي تسحق عديمي الموهبة والكسالى، حيث البقاء للأقوى هو القاعدة.
- صناعة السينما ليست مجرد صور متحركة، بل نظام له قوانين خفية تحكمها قوى أكبر من صناع الفن أنفسهم، لتمرير رؤى النخبة إلى الجمهور المستسلم.
- الصمت ليس دائمًا ذهبًا؛ ففي بعض الأحيان، يكون البوح بما يختلج في الذات ضرورة للخلاص، لأن الصمت المديد يتحول إلى وحش يفتك بصاحبه.
- الأحلام، مهما بلغت من جمال وإبهار، تبقى مجرد أحلام، وسنستيقظ منها يومًا لنواجه حقيقتنا، وقد نكره هذا الوجه الحقيقي الذي طالما هربنا منه.
- النخبة التي تدعو إلى الحداثة والحرية قد تكشف عن تناقضات صارخة حين يتعلق الأمر بحياتها الخاصة، متصرفة بشكل غير متوقع وغير حضاري. (يمكن تذكر هنا تصرف المخرج في الفيلم كمثال ضمني).
- الحب الذي يتحول إلى رغبة في الامتلاك يفقد جوهره ويصبح سعيًا لسجن المحبوب، مما يؤدي إلى كارثة على الطرفين، كما يتضح في تصوير المشاعر في الحلم مقابل الواقع.
لقد تعامل المخرج العبقري ديفيد لينش مع كل هذه الأفكار بطريقة صادمة وغير تقليدية، مرتكزًا على حلم البطلة ليأخذنا في رحلة إلى منطقة الجنون العاقل، ويكشف لنا قصور فهمنا للواقع الخفي في صناعة السينما وفي حياتنا كبشر، محذرًا من الغرور الناتج عن أوهامنا.
لم يكن لينش وحده صانع هذا الجمال، بل شاركه كوكبة من المبدعين:
- الماكيير الذي أبرز التناقض بين صورة البطلة المتألقة في الحلم وواقعها الأكثر بساطة، كاشفًا عن التجميل الوهمي للذات في الأحلام.
- مهندس الديكور الذي صور الأحلام كعالم مثالي ناطق بالجمال، مقابل قسوة وواقعية الحقيقة.
- مهندس الإضاءة الذي جعل للإضاءة دورًا فاعلًا في الأحلام، خاصة في مشاهد رجل المافيا ومسرح الصمت، وليس مجرد وسيلة للإنارة.
- الموسيقى التي كانت صوتًا للمشاعر المكبوتة، تخرج بعفوية لتضيف عمقًا وتأثيرًا.
أما نعومي واتس، فقد قدمت إبداعًا تمثيليًا نادرًا، معتمدة بشكل كبير على قوة نظراتها وتعبيرات وجهها ونبرة صوتها، خاصة في تقلباتها بين الحالات المختلفة في المشهد الواحد، محققة بذلك رغبتها في أن تُعرف كممثلة بارعة قبل أن تكون نجمة.
لورا هارينج، بتمثيلها المنضبط، عززت من قيمة أداء واتس، وكانت رد الفعل العميق الذي أوصلنا إلى الجمال الخفي في العمل.
"طريق مولهولاند" نفسه يمثل طريق الانحدار إلى الهاوية الذاتية عبر الانغماس في الأوهام والأحلام، وإقناع الذات بنظرية المؤامرة الكونية، وهو وهم يضاف إلى أوهامنا الأصلية بسبب الكسل العقلي وعدم مواجهة الحقيقة: أن قيمتنا الحقيقية تكمن في استثمار قدراتنا والسعي لما هو أبعد من حدود توقعاتنا.