"عندما يتصاعد الحديث عن الشأن العام، وتتعالى أصوات النخبة من علماء السياسة وخبراء الاستراتيجية، يصبح التمعن في طبيعة خطابهم أمرًا بالغ الأهمية. هذا التحليل المتعمق يسعى إلى استكشاف الإشكاليات الحقيقية التي تواجه هذا الخطاب في مصر، حيث: يتأثر التحليل بشكل كبير بالآراء الشخصية، مما يجعل حتى المحللين المتميزين عرضة لتأثير ميولهم، ويخل بموضوعية التحليل العلمي. وتبرز إشكالية اللغة، حيث يعيق استخدام لغة شعبية مبتذلة أو نخبوية متعالية وصول التحليل إلى قطاعات واسعة من الجمهور. بالإضافة إلى غياب التواضع والرغبة في الانتصار التي تدفع الكثيرين لإثبات الذات وتخوين الآخر، مما يعيق الحوار البناء. فضلًا عن تجاهل دور الشعب وعدم الاعتراف بقدرته على فهم الأحداث وتجاوز توقعات النخب. كما نلاحظ خفوت أصوات المفكرين المستقلين وتذبذب خطاب "أصحاب الحق" بين الخجل والانفعال، مما يضعف من قوة تحليلهم. وأخيرًا، غياب المطالبة القوية بإصلاح الإعلام ومواجهة التضليل.
لماذا يصبغ المحللون آراءهم بتحليلاتهم؟
هناك عدة أسباب محتملة لذلك، منها الانتماءات الأيديولوجية والسياسية التي تؤثر على رؤيتهم للأحداث، والرغبة في التأثير على الرأي العام أو دعم أجندة معينة. كما يلعب التحيز التأكيدي دورًا في دفعهم للبحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم. ولا نغفل الضغط المجتمعي والإعلامي الذي قد يدفعهم للتعبير عن آراء متوافقة مع التيار السائد.
لماذا لا يكتبون بتواضع؟
قد تساهم ثقافة النخبة الأكاديمية أو السياسية في خلق شعور بالاستعلاء، بالإضافة إلى الرغبة في بناء صورة "الخبير" التي قد يرون أن التواضع يقلل من هيبتها. كما أن تضخم الأنا يلعب دورًا في تبني نبرة متعالية.
لماذا يتوارى الخائفون على العلم؟
يخشى هؤلاء المفكرون من التبعات المحتملة لآرائهم المستقلة، مثل الانتقادات الحادة أو تهم التخوين. كما قد يشعرون بالإحباط من حالة الاستقطاب وعدم تقبل الآراء المختلفة، أو قد تكون لديهم أولويات جديدة.
لماذا يتحدث "أصحاب الحق" بخجل أو انفعال؟
ينبع ذلك من الشعور بالإحباط لعدم الاستماع إليهم، أو الضغط النفسي الذي يتعرضون له، أو حتى عدم الثقة في قدرة الجمهور على فهم التحليل الرصين.
لماذا لا توجد دعوة لمواجهة التضليل الإعلامي؟
يرجع ذلك إلى الخوف من انتقاد وسائل الإعلام النافذة، أو الاستقطاب الإعلامي بين المنتقدين أنفسهم، أو الشعور بالعجز أمام قوة الآلة الإعلامية، أو حتى تركيز الاهتمام على قضايا أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، تقع مسؤولية كبيرة على عاتق المؤسسات الأكاديمية والإعلامية في تبني معايير صارمة للتحليل الموضوعي وغرس قيم التواضع الفكري. يمكن للمناهج التعليمية ووسائل الإعلام أن تساهم في تعزيز ثقافة الاستماع إلى الرأي الآخر وتقديم تحليلات متوازنة ومدعومة بالأدلة. وبالمثل، يلعب الجمهور دورًا حاسمًا في تشكيل طبيعة الخطاب التحليلي من خلال البحث عن مصادر متنوعة، وتنمية التفكير النقدي، وعدم الانجرار وراء التحيزات.
إن ما أطرحه هو دعوة صريحة إلى خطاب سياسي وتحليلي أكثر نضجًا ومسؤولية. إن الحاجة إلى التواضع، والموضوعية، واللغة الواضحة، والشجاعة في التعبير عن الرأي المستقل، ومواجهة التضليل الإعلامي، هي متطلبات أساسية لبناء وعي عام حقيقي وتمكين الشعب من اتخاذ قرارات مستنيرة. إن تجاوز حالة الاستقطاب والرغبة في الانتصار الذاتي هو خطوة ضرورية نحو حوار وطني حقيقي يخدم مصلحة الجميع. وختامًا، نأمل في تطور الخطاب السياسي والتحليلي نحو الأفضل، ونؤكد على أهمية بناء الثقة بين المحللين والجمهور من خلال التحليل الموضوعي والمتواضع، وضرورة تشجيع الحوار بين المحللين من مختلف التوجهات.