حين ميسرة: صرخة قاتمة في وجه مجتمع متجاهل
شهدت فيلم "حين ميسرة" ورأيته وكأنه صرخة مدوية في وجه مجتمع ربما أصابه الصمم، صرخة محشرجة تكشف عورات واقع مؤلم، لكنها رغم ذلك، تبقى صرخة تنبيه.
الإنسان حين يصرخ لا يملك إلا أن يطلق عنان صوته، لكن صرخة صناع هذا الفيلم كانت مدروسة بعناية فائقة.
أخص بالذكر مهندس الديكور البارع، الذي نجح ببراعة مذهلة في نقل بشاعة العشوائيات وتفاصيلها القذرة إلى الشاشة، حتى شعرت وكأنني أتنفس غبارها وأشم رائحة يأسها. وكذلك مدير التصوير، الذي كانت إضاءته الخافتة والموحية في كل زاوية من الفيلم بمثابة أنين مكتوم، صرخة صامتة أشد وطأة وأكثر حزنًا من أي صوت عالٍ.
وأحيي الرؤية الثاقبة للمخرج خالد يوسف في اختياراته المدهشة للممثلين، وخاصة الأطفال والشباب الذين حملوا على عاتقهم عبء تمثيل براءة مفقودة. أما عن توجيهاته الدقيقة وحركة الممثلين المعبرة، فقد كانت كل لقطة تحمل بصمة فنان أراد أن يوقظ ضمائرنا.
أما عن عمرو سعد، فقد تقمص شخصية عادل ببراعة نادرة، ذاب في تفاصيلها الداخلية والخارجية، حتى نسينا الممثل ورأينا أمامنا ابن العشوائيات بكل ما يحمله من يأس وقوة وصلابة. أشد على يديه بحرارة إعجابي بهذا الأداء المذهل.
بينما أرى أن سمية الخشاب تحتاج إلى تركيز أكبر على تعابير وجهها الدقيقة، ففي لحظات عديدة بدا وجهها جامدًا كقناع شمعي لا يعكس عمق الموقف. كما أن إنقاص وزنها سيخدم مصداقية بعض الأدوار التي تقدمها.
لكن المفاجأة الحقيقية كانت في أداء الأستاذ عمرو عبد الجليل، الذي فاق الوصف بكل معاني الكلمة. وعلى لسانه تجلت الفكرة الفلسفية للفيلم: أن سكان هذه المناطق المهمشة غير مرئيين، لا وجود لهم في حسابات الآخرين.
أما عن اعتراض البعض على قتامة الفيلم، فقد كانت السوداوية المطلقة خيارًا فنيًا مقصودًا من صناعه. لم يكن سواد "حين ميسرة" مجرد لون بصري، بل كان انعكاسًا لظلام اليأس الذي يخيم على أرواح قاطني هذه البقع المنسية. لقد أراد صناع الفيلم أن نشاركهم هذا الإحساس الخانق، أن نرى العالم من خلال عيون أولئك الذين لا يرون بصيصًا من نور في نهاية النفق. لقد عمدوا إلى هذا التصوير القاتم ليجعلونا نركز على الواقع المرير دون تشتيت بأي جماليات زائفة.
ولا يمكن إغفال البطولة الحقيقية في هذه القصة، وهم أهل العشوائيات أنفسهم، الذين أعتبر صمودهم في وجه هذه الظروف اللاإنسانية بطولة يومية، حتى لو بدت حياتهم للبعض مجرد بقاء على قيد الحياة. في عيونهم، رأيت مزيجًا معقدًا من اليأس والعزيمة، أحلامًا بسيطة تتكسر على صخور الواقع، ورغبة خفية في حياة أفضل.
لكني أرفض بشدة محاولة الفيلم الربط السطحي بين العشوائيات وقضايا بعيدة كأمريكا والقاعدة. هذا الربط مشوش وغير منطقي، حتى لو حاول صناع الفيلم تبريره. الرابط الحقيقي والعميق للعشوائيات هو الفساد المستشري بكل أشكاله: فساد المال الذي ينهب حقوقهم، فساد السلطة الذي يتجاهلهم، فساد العقول الذي يشوه وعيهم، وفساد الأرواح الذي يفقدهم الأمل. هذا الفساد هو التربة الخصبة التي تنبت فيها كل أشكال البؤس والانحراف.
كلمة أخيرة لخالد يوسف: لقد أوصلت صرختك المدوية بفيلمك هذا، ويكفيك فخرًا أنك ألقيت بحجر ثقيل في مستنقع التجاهل واللامبالاة. الآن، فليصمت الفيلم وليتحدث النقاش، فلكل منا الحق في إبداء رأيه، وهذا التفكير الذي أثاره الفيلم هو أكبر نجاح له، حتى لو كان مصحوبًا بالرفض. لقد أيقظت "حين ميسرة" أسئلة مؤلمة تحتاج إلى إجابات جريئة.