=========
ما يحدث في المنطقة العربية، ومن داخلها الأمة الإسلامية، هو بكل وضوح إعادة ترتيب جيوسياسية شاملة، تُنفذ وفق أهواء "العم سام" (الولايات المتحدة الأمريكية)، ومن خلفها "الربيبة" إسرائيل، وبمساندة حلفائهما من دول أوروبا الغربية. هذا المخطط الأوسع يهدف إلى إعادة صياغة الخريطة الجيوسياسية للمنطقة بما يضمن هيمنة مصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية على المدى الطويل، ويقضي على أي مركز قوة مستقل يمكن أن يشكل تحديًا لنفوذهم.
وذلك يتم عن طريق عدة أساليب ممنهجة، تعمل بتنسيق دقيق:
- تفكيك العراق من الداخل، عبر تغذية وإبراز العصبيات والمذهبيات والعشائرية. هذا التفتيت الاجتماعي لا يهدف فقط إلى زعزعة استقراره، بل إلى منعه من استعادة عافيته كدولة موحدة قوية، وتحويله إلى بؤرة دائمة للصراع الداخلي تُستنزف فيها طاقاته.
- تمكين إيران، ولكن دون إطلاق يدها بالكامل؛ أي بـ"يد مغلولة". هذا التمكين المحسوب يخدم أغراضًا استراتيجية؛ فوجود قوة إقليمية تُثير القلق لدى دول الجوار والمنطقة يبرر التدخلات الخارجية، وينشط سوق بيع السلاح، ويصرف الأنظار عن الأجندات الحقيقية للقوى الكبرى. في الوقت نفسه، يتم ضمان بقاء إيران تحت السيطرة بحيث تعود إلى وظيفتها كـ"شرطي للمنطقة" عندما تدعو الحاجة.
- محاولة شيطنة أهل السنة، وهي عملية تتم عبر ربطهم بالإرهاب والتطرف، والتركيز الإعلامي المكثف على المجموعات المتطرفة التي تدعي الانتماء إليهم. هذا يهدف إلى تشويه صورتهم العالمية وتبرير أي استهداف أو تهميش لهم، بينما يُترك "الحبل على الغارب" للتيارات الشيعية لتتوسع في نفوذها. هذه السياسة تُبنى على افتراض أن المذهب الشيعي، في بعض جوانبه، أقرب إلى المسيحية من الفهم الجوهري للإسلام الحقيقي، مما يسهل التعامل معه أو اختراقه ضمن هذا المخطط الأوسع.
- نزح أموال الخليج وثرواته الهائلة كنوع من الثأر على أحداث عام 1973، حيث امتنعت الدول المنتجة عن تصدير البترول، مما أثر على الاقتصاديات الغربية. هذا النزح لا يخدم فقط الانتقام، بل يهدف إلى إضعاف القدرة المالية لهذه الدول على بناء نفوذ مستقل أو دعم مشاريع قومية، وربط مصالحها بشكل وثيق بالاقتصاديات الغربية.
- إسقاط مراكز القوة الإقليمية في المنطقة وتصعيد كيانات أو أفراد "صغار" وجعلهم كالعماليق إعلاميًا. هذا الإسقاط يستهدف تفتيت أي محور مستقل للممانعة أو النفوذ الحقيقي، بينما يتم تصعيد وكلاء لا يملكون قرارهم، والكل في النهاية مجرد أدوات تنفيذ لأجندة خارجية.
- إنهاء سوريا ككيان ممانع سياسيًا أو عروبيًا، حتى لو تطلب الأمر الإبقاء على الأسد إعلاميًا وواقعيًا. الهدف لم يكن بالضرورة إسقاط النظام، بل تدمير البنية التحتية للدولة، وإضعاف أي قدرة مستقبلية لها على الممانعة، وتحويلها إلى ساحة صراع مستمر تستنزف قواها وقوى المنطقة وتخدم أجندات القوى الكبرى.
- إدخال مصر في فوضى عارمة تأكل الأخضر واليابس. هذه الفوضى تتم من خلال إهمال وتدمير ممنهج لكل شيء، حتى الحجر قبل البشر، بما في ذلك الاقتصاد، والبنية التحتية، والنسيج الاجتماعي، لتقويض أي قدرة لمصر على استعادة دورها القيادي أو تشكيل أي تهديد للمخطط الإقليمي.
من الآخر، يجب أن ندرك أن العدو الحقيقي لثورة يناير ليس داخليًا كما قد يظن البعض؛ لأن الداخل في كثير من الأحيان ليس سوى منفذ فقط لأجندة الخارج الذي أتى به وزرع أسبابه. لذا، من الضروري أن نعرف موقعنا بدقة في مكان المعركة حتى نعرف كيف ننتصر. هذا يتطلب وعيًا عميقًا بالدوافع الخفية، وتمييز الأدوار، وتحديد العدو الحقيقي الذي يعمل في الظل. هذا الوعي هو أولى خطوات الانتصار، لأنه يمنع التشتت ويحدد بوصلة المواجهة الحقيقية.
أما "الهرتلة" التي تجري الآن من الجميع، وأنا أولهم، فاسمها الحقيقي هو تنفيس للغضب الحقيقي. هذا التنفيس خطير للغاية؛ لأنه يصرف الطاقات والجهود عن التوجيه الصحيح نحو الأهداف الحقيقية للتحرر والانتصار. هذا التنفيس يعتبر سلاحًا في يد العدو، وأحد أهم أسباب فوز "الداخل المنفذ" علينا حتى الآن. لذلك، لابد للمراجل أن تُقفل بإحكام، وكتم الغضب وتوجيه الطاقات بذكاء وصبر، حتى تتراكم القوة وتنفجر في الوقت المعلوم والمكان المناسب، لا أن تتبدد في صراعات جانبية أو كلمات بلا فعل حقيقي. والله أعلى وأعلم.