"القناع"Persona : صراع النفس ومواجهة الحقيقة في سينما بيرغمان

"القناع"Persona :

 صراع النفس ومواجهة الحقيقة في سينما بيرغمان

============



"القناع": رحلة إلى أعماق الذات في تحفة بيرغمان السينمائية

هذا تحليل لفيلم "القناع" (Persona) للمخرج السويدي العبقري إنغمار بيرغمان. الفيلم إحدى درر السينما العالمية، ويتجاوز مجرد سرد قصة ليصبح تجربة تأملية للمشاهد في أعماق ذاته. إنه يتناول الصراع النفسي، ويهدم الجدار الرابع، ويستخدم المونودراما ببراعة فريدة.


مستويان للسرد: بين الواقع واللاوعي

يلخص الفيلم جوهره في فكرة أن الحوار الحقيقي يدور بين الإنسان وذاته، وأن كبت التعبير عن الأخطاء وعدم التسامح مع الذات يؤدي إلى الجنون. الفيلم يبدأ بلقطات سريعة، بعضها عنيف وبعضها فاضح، ثم مشهد لفتى في مستشفى. يقوم الفتى ليرى شاشة خيالية عليها صورة غير واضحة لامرأة، وهي لمسة من الواقعية السحرية التي تُمَهِّد لعمق الصراع النفسي غير المباشر.

تطلب طبيبة من ممرضة اسمها "ألما" العناية بالمريضة "إليزابث"، وهي ممثلة مسرح مشهورة توقفت عن الكلام أثناء تمثيل مسرحية، ثم صمتت نهائيًا. تُرسلهما الطبيبة إلى الساحل للعلاج والنقاهة، وهناك تصبحان صديقتين. الكوخ على الساحل ليس مجرد مكان للعلاج، بل هو مساحة معزولة تسمح بتركيز المخرج على العلاقة النفسية المضطربة. يدفع صمت "إليزابث" الممرضة "ألما" إلى الكلام والصراحة، حتى تكتشف الممرضة رسالة كانت "إليزابث" سترسلها تفضح فيها أسرار "ألما"، فتنقلب علاقتهما رأسًا على عقب، لتبرز فكرة اندماج الشخصيتين وتبادل الأدوار بينهما، حيث تبدأ "ألما" في تمثيل جزء من "إليزابث" والعكس.

المستوى الثاني للمشاهد الحقيقي يجعلك تدخل داخل الكادرات، لترى معنى أن تتصارع مع ذاتك، لأن القصة هي حوار مع الذات وليس مع الآخر. ينتهي الفيلم بخروج البطلة من الكوخ بمفردها، بينما الشخصية الأخرى تظل في مشهد سينمائي، أي سليمة نفسيًا وجسديًا. الحوار الذي شاهده الجمهور هو في الحقيقة حوار تخيلي بين البطلة ونفسها.


الفكرة المحورية: التسامح مع الذات وضرورة التطهر النفسي

أهم فكرة في الفيلم هي أن كبت التعبير عن الأخطاء، والفرص الضائعة، وعدم التسامح مع الذات، يؤدي إلى الجنون. مع أن الطبيعي أن يرتكب الإنسان أخطاءً، وإلا أصبح آلة صماء.

يربط الفيلم هذه الفكرة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية عن طبيعة الإنسان وضعفه وأهمية التوبة والمغفرة، مما يضيف بُعدًا فلسفيًا وروحيًا عميقًا. هذا الربط يؤكد أن موضوع الصراع النفسي البشري عالمي ومتجذر في الفطرة الإنسانية، سواء من منظور فني أو ديني. إن الضعف البشري ليس نقطة ضعف مطلقة، بل هو دافع للتوبة والنمو.


  • قال النبي ﷺ: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم". هذا من رحمته وجوده، فقد قدّر على عباده وجود الخطايا، ثم يتوب عليهم سبحانه إذا تابوا إليه.
  • "فلا ينبغي للعبد أن يقنط"، أي لا تيأس، بل بادر بالتوبة، كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر:53]، يعني للتائبين، فهو قدر الذنوب وقدر المغفرة .
  • وفي حديث حنظلة بن الربيع الأسيدي: "يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا". فقال رسول الله ﷺ: "والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، لكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات. رواه مسلم.
  • ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:28].

من هنا، نتعلم أن التعبير عن تلك الأخطاء والنواقص والفرص الضائعة ليس بكاءً على اللبن المسكوب، بل هو في الحقيقة عودة إلى الإنسانية بداخلك، وتطهير نفسي ضروري. أما من يتعالى على نفسه وينكر تلك الأخطاء، فتحترق بداخله، ويحتدم الصراع مع ضميره حتى يفقد نفسه، ومن ثم يفقد الحياة.


الإخراج الفني: هدم الجدار الرابع وكشف "القناع"

الفيلم من نوع المونودراما، وكأننا أمام مسرح وليس سينما، ومعظم اللقطات كانت قريبة جدًا (كلوز أب). كأن المخرج يقرب وجه المتفرج حتى يرى نفسه على الشاشة، وهو ما يعرف بـهدم الجدار الرابع عند برتولت بريشت. هذا التركيز الشديد يخلق إحساسًا بالاختناق أو الضغط النفسي على المشاهد، فلا يجد مفرًا من مواجهة هذه المشاعر. الموسيقى كانت رائعة، لأنها أضافت توترًا شديدًا للمتفرج، مؤكدة وجود صراع نفسي داخلي، فهي ليست مجرد خلفية بل عنصر فاعل في بناء التوتر الدرامي.

نأتي لاسم الفيلم: "قناع" (Persona). الممرضة هي المريضة، ولكنها ترتدي قناع من يتسبب في الشفاء. ومن هنا، أراد المخرج أن يرى كل إنسان على حقيقته، دون قناع زائف، فـالقناع ليس فقط للتمويه، بل هو آلية دفاع نفسية يستخدمها الأفراد للتعامل مع واقعهم المؤلم أو أخطائهم. والفيلم يدعو إلى نزع الأقنعة للوصول إلى الحقيقة المؤلمة ولكن الضرورية.

"القناع" جوهرة سينمائية تستدعي مشاهدات متعددة لاكتشاف طبقاتها المختلفة.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.