"إخوة ليلى": حين تكشف الأسرة عن أوجاع أمة
====================
"إخوة ليلى": صرخة عميقة في وجه واقع متهالك
فيلم "إخوة ليلى" (Leila's Brothers) ليس مجرد دراما عائلية؛ إنه عمل سينمائي جاسر ومؤثر، يتجاوز حدود السرد التقليدي ليغوص في أعماق مجتمع ينخره الفساد واليأس. كمتفرج، وجدت أن هذا الفيلم يقدم نموذجًا مصغرًا للمجتمع بأسره، حيث تتكشف علله وأمراضه من خلال عدسة أسرة إيرانية على وشك الانهيار. يبقى الفيلم محفورًا في الذاكرة بعد انتهائه، ويترك تساؤلات مؤرقة حول مستقبل مجتمعاتنا.
رمزية القصة: دوامة الفشل المتوارث
يكمن جوهر قوة الفيلم في جرأته على تفكيك المؤسسة الأسرية، التي غالبًا ما تُعتبر مقدسة، والكشف عن العفن الذي ينخرها من الداخل. القصة لا تكتفي بعرض الفقر المادي، بل تمتد لتُظهر دوامة الفشل الأخلاقي والقيمي الذي ينتقل عبر الأجيال. أرى الأب غارقًا في هوسه بـ"مجد الماضي" وسعيه للحصول على لقب "شيخ القبيلة"، وهي مكانة زائفة يبنيها على حساب إفقار من حوله. هذا السلوك لا يمثل فردًا، بل يرمز لشريحة من المجتمع تتمسك بالتقاليد البالية أو الأوهام، وتصرف طاقتها وثرواتها على مظاهر زائفة بينما تنهار ركائزها الأساسية.
على النقيض، تبرز شخصية ليلى كعمود فقري للأسرة. هي المرأة التي تحمل العبء الأكبر، تسعى جاهدة للم شمل إخوتها وتوفير حياة كريمة لهم. لكنها تظهر لنا مريضة ومنهكة، وهذا المرض يرمز بوضوح إلى حالة الوهن والإرهاق التي تعاني منها القوى الفاعلة والإيجابية في المجتمع. ليلى هي المحاولة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنها تُسحق تحت وطأة جشع وإهمال من حولها. هذا التصوير للمرأة كقوة دافعة قادرة على التغيير، وفي الوقت نفسه ضحية لمجتمع لا يدعمها بل يستنزفها، يقدم نقدًا لاذعًا للواقع الاجتماعي.
أما الإخوة الأربعة، فهم يجسدون كل أنماط الكسل، الهروب من المسؤولية، والاتكالية التي يمكن أن تصيب أي مجتمع. أرى منهم من يعيش عالة على الآخرين، ومن يغرق في عاداته السيئة دون تفكير، أو يستخدم العنف الغريزي. هذه الشخصيات مجتمعة ترسم صورة قاتمة للإنتاجية والتعاون داخل هذا الكيان الأسري الذي يمثل المجتمع بأكمله. والأمر الأكثر إيلامًا هو أن هذه الأسرة لم تفكر أبدًا في الاستثمار أو بناء مستقبل حقيقي؛ بل لجأت إلى "النصيحة" – أي التحايل، التفكير قصير النظر، والسعي وراء مكاسب سريعة وغير مشروعة. هذا التفكير يعكس غياب الرؤية والتخطيط، ويفضح العجز الجماعي عن مواجهة المشكلات بحلول جذرية.
التمثيل: تجريد الشخصيات من الأقنعة
قوة الفيلم لا تكتمل إلا من خلال الأداء التمثيلي الاستثنائي الذي أراه ببراعة. الممثلون هنا لا يقدمون مجرد أدوار، بل ينجحون في تجريد الشخصيات من أي أقنعة أو مثاليات مصطنعة. إنهم يجسدون الحقيقة العارية لهذه الشخوص بكل عيوبها البشرية، شراهتها، كسلها، غضبها، ويأسها، مما يجعلني كمتفرج أشعر وكأنني أمام عائلة حقيقية تعيش مأساتها.
بوريا رحيمي سام في دور ليلى تقدم أداءً عميقًا لا يكتفي بإظهار المعاناة، بل يجسد القوة الداخلية والصراع المستميت للمرأة، حتى وهي تنهار. أما فرهاد أصلاني في دور الأب، فيقدم تحفة فنية في فضح شخصية الأب المتسلط، الذي يرى نفسه مركز الكون ومستحقًا للمكانة، رغم تدميره لنسيج أسرته. هذا التجسيد يكسر نمط الأب "المقدس" ويقدمه كرمز للفشل والسلطة المتآكلة. هذا الأداء الجماعي ليس مجرد "تمثيل"، بل هو استنساخ دقيق للواقع الإنساني في ظل ظروف قاسية، مما يجعلني أصدق تمامًا هذه الأسرة وأغوص في معاناتها.
الإخراج: غوص غير مسبوق في الواقعية القاسية
إن إحساسي بأن الفيلم "غير عادي" ينطبق بقوة على الإخراج كذلك. المخرج هنا لا يكتفي بعرض الأحداث، بل يتبنى رؤية جريئة وعميقة تهدف إلى إغراق المشاهد في واقع مؤلم دون تزويق أو تجميل. أشعر وكأن الكاميرا جزء لا يتجزأ من المنزل، تراقب الشجارات، اللحظات الهادئة المشحونة بالتوتر، والوجوه القلقة عن قرب. هذا يمنح الفيلم إحساسًا بالواقعية الفائقة وكأنني أشاهد فيلمًا وثائقيًا عن هذه العائلة.
المخرج يستخدم كل أدواته السينمائية - من الإضاءة وحركة الكاميرا إلى تصميم الصوت - لخلق جو من التوتر المتصاعد. الصراخ، الهمس، الصمت المطبق، كلها تخدم هذا الغرض. هو لا يخشى كشف الجوانب الأكثر قبحًا في حياة هذه الأسرة، مما يجبر المشاهد على مواجهة الحقيقة الصعبة. هذا التحدي للتقاليد السينمائية التي قد تفضل تصوير الواقع بشكل أكثر لطفًا، يجعله فيلمًا قادرًا على إحداث صدمة واعية ويدفع للتفكير العميق والمراجعة.
خاتمة: صرخة في وجه الانهيار
في النهاية، لا يعرض "إخوة ليلى" مجرد قصة أسرة مفككة؛ بل يقدم بيانًا قويًا وعميقًا وتشريحًا قاسيًا لمجتمع غارق في أزماته. إنه يفكك النسيج الاجتماعي من خلال أسرته، ويكشف عن أمراضه الخفية، ويقدم نقدًا لاذعًا للقيم التي تساهم في انهياره. إنه فيلم يجبرني على مواجهة حقيقة أن التمسك بأوهام الماضي، والكسل، والاستغلال، وغياب التخطيط، كلها عوامل تقود حتمًا إلى الانهيار التام، سواء على مستوى الأسرة أو المجتمع بأكمله. إنها صرخة فنية لاذعة تستحق أن تُسمع وتُناقش طويلاً.