في ظاهر الأمر قد يظن الإنسان أنه لا يملك شيئًا؛ يواجه الفقر المادي أو ضعف الإمكانات أو الإحباط العام، فيتوهم أنه مجرد رقم في جموع لا وزن لها. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير: كل فرد في هذا الوطن يملك ما لا يُقدّر بثمن. إننا نحمل مصر داخلنا، بتاريخها الممتد، بهويتها المركبة، بذاكرتها الجماعية، وبكل ما فيها من حلوٍ ومرّ، من نصرٍ وانكسار، من إشراقٍ وظلمة. هذه الملكية الرمزية والمعنوية هي أعظم ما يمكن أن يُحمل، لكنها في الوقت ذاته أعظم ما يُهدد.
الثالوث المقدس للهدم
حين ندرك أننا نحمل مصر في داخلنا، يصبح من المفهوم لماذا سعت قوى متعددة – داخلية وخارجية – إلى تكريس الثالوث المقدس: الفقر، الجهل، المرض. فهي أدوات الهدم الناعمة التي لا تسقط جدران الوطن مباشرة، بل تنخر في أساساته الداخلية حتى ينهار من تلقاء نفسه. إن إفقار المواطن لا يحرمه من لقمة العيش فقط، بل يحرمه من الكرامة والقدرة على المشاركة الفاعلة. والجهل لا يطمس المعارف وحدها، بل يطمس الوعي الذي هو شرط أساسي لأي نهضة. أما المرض، فيسلب الجسد والروح معًا، فيُضعف الطاقة الكامنة في الإنسان ليصبح عاجزًا عن النهوض بنفسه أو بغيره.
هكذا، حين يسقط المواطن أسيرًا لهذا الثالوث، تسقط معه مصر التي يحملها داخله، ويغدو الوطن الخارجي هشًّا، مهيأً للتلاعب والاستنزاف.
مسؤوليتنا الذاتية
السؤال الأهم: ماذا فعلنا نحن لمقاومة الفقر والجهل والمرض؟ الإجابة المؤلمة أن كثيرًا منا لم يفعل شيئًا يُذكر. ليس فقط لأن الظروف قاسية أو لأن المؤامرات الخارجية محكمة، بل لأننا غالبًا ما نتقاعس لأسباب ذاتية؛ نكتفي باللوم، ونلقي بالمسؤولية على الآخرين.
كم منّا حاول انتشال فقير من فقره بمشروع حياة حقيقي، لا بفتات يُلقى كصدقة عابرة؟ كم منّا ساهم في نشر الوعي في مجتمعه بلا أنانية ولا بحث عن زعامة وهمية؟ كم منّا عمل مع أسرته ومحيطه الصغير على محاصرة الأمراض بالوعي الصحي والعمل الجماعي، لا بمجرد التبرع بالمال؟
الحقيقة القاسية أننا غالبًا أول الهادمين لمصر في داخلنا، لأننا نقف عند حدود تبرير أنفسنا وشيطنة الآخرين. نرى أنفسنا ملائكة فيما سوانا شياطين، وهذه النظرة المريحة نفسياً هي أخطر ما يهدد أي مشروع وطني.
العوامل الخارجية والقدرة على المقاومة
لا أحد ينكر أن هناك عوامل خارجية حاضرة بقوة، تعمل بحرفية ومنهجية علمية على إضعافنا وإبقاء الثالوث قائمًا. لكن هذه العوامل، مهما بلغت قوتها، تنهار أمام وعي داخلي حقيقي. الدليل التاريخي حاضر أمامنا: الفرق الجوهري بين جيش مصر في 1967 وجيشها في 1973. السلاح في الحالتين لم يكن العامل الحاسم، بل كان الفارق في الروح المعنوية، في الإعداد النفسي، في الإيمان بالقدرة على تحقيق النصر. مراكز أبحاث عسكرية كبرى أفردت دراسات مطولة لهذا الفارق، وخلصت إلى أن التحول لم يكن في العتاد فقط، بل في الإنسان المصري حين وعى ما يملك بداخله.
إعادة بناء الداخل
إن التحدي الأكبر أمامنا اليوم ليس فقط تحسين الاقتصاد أو تطوير التعليم أو إصلاح المنظومة الصحية – على أهمية كل ذلك – بل إعادة بناء مصر في داخل كل واحد منا. إذا استعدنا وعيًا حقيقيًا بما نملكه، فلن تستطيع أي قوة أن تهدمه. وإذا بقينا غافلين، فحتى أعظم الخطط ستبقى بلا جدوى.
إعادة البناء تبدأ من الفرد: من إدراك أن كل فعل صغير – مساعدة فقير، نشر وعي، مواجهة مرض، تربية جيل – هو لبنة في صرح وطني كبير. تبدأ من الكف عن التذرع باللوم والانتظار، ومن الانتقال إلى الفعل والمبادرة.
خاتمة
مصر ليست مجرد حدود جغرافية أو مؤسسات رسمية، بل هي فكرة حيّة نحملها في أعماقنا. وحين ندرك أننا جميعًا مسؤولون عن صيانتها في الداخل، يمكن عندها أن نحميها في الخارج. السؤال إذن: هل سنظل نسمح لهم بهدم مصر داخلنا، أم سنعيد بناءها ونستعيد أنفسنا معها؟
إن الإجابة ليست في الشعارات، بل في الفعل اليومي المتراكم، وفي الوعي بأن ما نحمله ليس بالقليل على الإطلاق، بل هو أثمن ما نملك: مصر ذاتها.