موت الحياة في سجن التقاليد
بقلم محسن عباس
--------------
منذ نعومة أظافرها، تعلمت الطفلة أن جسدها مصدر للعار.
الأم، بصوت صارم كقانون سماوي، كانت تهمس:
كبرت الطفلة وهي تتنفس الخوف.
كل حركة، كل ابتسامة، كل رغبة صغيرة، كانت تحت الرقابة الصامتة.
يوم الختان جاء كطقس رسمه المجتمع.
سال الدم، وغُمرت صرخاتها بالزغاريد.
ضحكت الأم بفخر، بينما الطفلة شعرت أن حياتها تُسلب دفعة واحدة.
المراهقة انطلقت مثل عاصفة صامتة.
الجسد تغير، والمرآة كشفت كل انحناءة، كل شعور، كل حلم صغير.
الأم، حارسة صارمة، كانت تراقب كل خطوة، كل لباس، كل نظرة.
"خبي صدرك، امشي كويس، أوعي حد يحس بيك."
في هذه المرحلة، تعلمت الطفلة كيف تتحرك بلا ثقل.
كيف تضحك بلا فرح.
كيف تكون موجودة بلا أن تُرى.
كل شعور بالحرية كان يُسحق قبل أن يولد.
ثم جاء الزواج.
في البداية، بدا العريس لطيفًا، هادئًا، مهذبًا، كأنه نسخة من عالم آمن.
ابتسامات خففت رهبتها، وكلماته كانت متنفسًا صغيرًا للثقة.
لكن التحولات بدأت تدريجيًا.
ابتساماته صارت أكثر حدة، صوته أقل دفئًا.
كل حركة منه كانت اختبارًا لصبرها وخضوعها.
الليونة الأولى كانت مجرد واجهة، خلفها برودة السيطرة.
ليلة الدخلة، هادئة للآخرين، لكنها عاصفة في الداخل.
كانت الطفلة التي اختفت في الخفاء تشاهد نفسها تتلاشى.
تبحث عن شعور، لكنه لم يكن موجودًا.
الدم على المنديل صار الرمز الوحيد للحياة التي انقضت.
وأمها جاءت في الصباح لتأخذ برهانًا على "الشرف":
"الحمد لله... كده تمام."
البيت بعد الزواج صار نسخة أكبر من بيت الطفولة، لكنه أكثر شراسة.
الجدران تراقب، الصمت يثقل الهواء.
الزوج، بابتساماته الجديدة، أصبح تمثالًا حيًا للسلطة المتوارثة.
في الخارج، المجتمع كله نسخة من نفس النظام:
وجوه مطيعة، كلمات خافتة، أعراف تحكم كل حركة.
كل ضابط، كل والد، كل زوج، وكل امرأة صامتة كانت جزءًا من نفس الحلقة المفرغة.
تزور الأم أحيانًا، تبتسم بفخر:
"شايفة؟ بيت هادي ومستور، الحمد لله."
وتومئ الفتاة، تخفي تحت الصمت جسدًا بلا روح، ووعيًا حيًا لكنه محاصر.
في الليل، حين يسكن كل شيء، تصبح الجدران أكثر سمكًا.
السقف يضغط على صدرها بهدوء.
تمد يدها إلى قلبها، فلا تجد سوى فراغ.
تنظر إلى المرآة، لكنها لا ترى وجهها، فقط ظلًا يختبئ في زاوية الغرفة.
الزوج، في غيابه عن النظر إليها، يصبح واجهة مثالية للمجتمع، لكنه في الداخل متوارث من ثقافة القهر نفسه: برودة، سيطرة، اختبارات صغيرة مستمرة.
البيت، الدم، الصمت، الجدران، كل شيء صار رموزًا لسجن التقاليد.
حتى في الشوارع، النساء يخرجن مثلها، والأطفال يتعلمون الصمت، والرجال يكررون نفس النسق:
نسخة مقلوبة من طاعة مُفروضة، وجمال محجوب، وحياة تُقتل تدريجيًا.
وهكذا اكتملت الدائرة:
طفلة تربت على الخوف تصبح امرأة تموت داخليًا.
ورجل يظهر طيبًا لكنه نسخة من نفس القهر.
وجدران تتنفس ببطء، والسجن الاجتماعي يستمر شامخًا، بلا صدع، يبتلع الجميع بصمت.
الحياة تستمر، لكن روحها ماتت منذ زمن.
وللأبد، يبقى سجن التقاليد هو المخرج الوحيد الذي لا يُفتح.