مقاسي أنا

 

مقاسي أنا

بقلم: محسن عباس

-----------



========

في كل إنسانٍ غرفة لا يدخلها أحد.
غرفة يخلع فيها أدواره، يواجه صوته الداخلي، ويعيد ترتيب ملامحه التي بعثرتها الحياة.
هناك فقط، يصبح الإنسان ما هو عليه فعلًا، لا ما يريد العالم أن يراه.

دخل رجلٌ طويلٌ عريضُ المنكبين، ذو شَنبٍ كثيفٍ مميز، محلّ اللانجيري.
ألقت البائعة عليه نظرةً متفحّصة، ثم سألته بابتسامةٍ ماكرة:
– المقاس كام يا فندم؟
قال وهو يحاول أن يبدو واثقًا:
– في جسمي.
ضحكت وقالت:
– يعني الأنْدَر؟
قال:
– ون سايز.
– والبرا؟
قال بهدوء:
– ثري.

رفعت حاجبها بدهشةٍ خفيفة، ثم قالت وهي تحاول إخفاء ابتسامتها:
– طب وعاوز ألوان إيه؟
قال بجدٍّ فيه غموض:
– طقم أسود (للسرية التي أعيشها)، وآخر أحمر (للرغبة التي أبحث عنها)، وثالث كناري (للضوء المفقود).
قالت وهي تضع القطع في الكيس:
– ذوقك حلو أوي.
ردّ مبتسمًا ابتسامة قصيرة:
– اللبس مش مجرد قماش… ده جزء من الشخصية.

خرج من المحل متماسك الخطوات، وتوجّه إلى محل أحذية نسائية.
قال للبائع:
– عايز حذاء بكعبٍ عالٍ… لونه فضي.
ردّ البائع متسائلًا:
– مقاس كام؟
قال بثقةٍ غريبة:
– مقاسي.
حدّق فيه البائع لحظة، ثم تمتم في نفسه بدهشةٍ مكتومة:
ده شكله متجوز هرقل!

بعدها اتجه إلى الأتيليه، حيث كانت البائعة الشابة تستقبله بابتسامةٍ احترافية.
بدأت تعرض عليه فساتين سهرة طويلة ولامعة، لكنه قطع حديثها قائلاً:
– عايز فستان قصير… ميني جيب.
تردّدت قليلًا ثم ناولته واحدًا.
قال وهو يتفحّص القماش:
– هاخده، بس لو المقاس مش مظبوط أغيّره؟
قالت بابتسامة متكلّفة:
– البضاعة المباعة لا تُرد ولا تُستبدل.
قال:
– والحل؟
قالت بخجلٍ خفيف:
– تقيسه هنا.
قال سريعًا:
– مش نافع، ده هدية لمراتي.
سألته:
– طب مقاسها كام؟
قال ببساطة:
– مقاسي.
ترددت قليلًا ثم قالت محرجة:
– يبقى تقيسه انت.
فوافق بلا تردّد.

خرج من الأتيليه وفي عينيه بريق غريب.
كان يسير في الشارع بخطواتٍ بطيئة، لا يشعر بثقل الأكياس، بل بثقلٍ أعمق في صدره.
كان يدرك في داخله أن ما يفعله ليس جنونًا، بل انتقام هادئ من الإهمال.
منذ سنواتٍ، لم تلتفت إليه زوجته كأنثى، ولم تلتفت إلى نفسها أيضًا.
تحوّل البيت إلى مكانٍ للنوم والأكل فقط، لا دفء فيه ولا رغبة، كأن الحياة فيه أُطفئت عمدًا.
فصار هو يبحث عن لمعة الحياة في ما تبقّى منه هو.

وصل إلى الشقة التي لا يعرفها أحد.
أغلق الباب خلفه بإحكام، خلع معطفه ببطء، وأشعل سيجارة.
جلس ينفث الدخان في هدوءٍ ممتع، كأنه يهيّئ المكان لطقسٍ مقدّسٍ سري.

ثم بدأ يرتدي كل ما اشتراه بعنايةٍ شديدة، كمن يلمس شيئًا ثمينًا يخصّه وحده.
ومع كل قطعة كان يشهق شهقة الملهوف والمحروم من الحياة، كأنه يستردّ أنفاسه القديمة التي صادرها منه العالم.
وحين ارتدى الفستان أخيرًا، وقف أمام المرآة بشغفٍ عارم.
لم تكن تلك المرآة الضيقة الزائفة في الأتيليه، بل مرآته الكاملة التي تعكس كل زوايا الغرفة.

تأمل نفسه طويلًا، ثم قال بهدوءٍ فيه حنان:
– ماهو ده مكاني الحقيقي… بعيد عن عيون الناس وكلامهم.

لم يكن يرى امرأةً متخيّلة في المرآة، بل يرى الأنثى الغائبة التي خذلتها زوجته فيه وفي نفسها.
قال بصوتٍ خافتٍ يختلط بالدخان:
– يمكن كنت محتاج أشوفها… مش فيها، فيّا أنا.

ابتسم في صمتٍ طويل، ثم جلس على المقعد، أطفأ السيجارة، وبدأ يخلع ما ارتداه قطعةً قطعةً كما لو كان يخلع وجعًا متراكمًا.
شعر أن روحه تستريح أخيرًا في مقاسها الصحيح.
ارتدى ملابسه العادية، نظر في المرآة مرةً أخيرة، وقال لنفسه بابتسامةٍ متعبة:
– خلاص… كفاية كده.

وفي المساء، عاد إلى بيته.
فتح الباب بصوتٍ جهوريٍّ مفعمٍ بالنشاط، وقال لأولاده:
– وحشتوني يا ولاد!
جلس بينهم ضاحكًا، يوزّع الدعابة كعادته، ثم قال بنغمةٍ مطمئنة:
– أهمّ حاجة إنك تعرف نفسك… وتحبها، حتى لو الناس شايفينك غلط.


توضيح تأويلي

البطل في «مقاسي أنا» لا يُقدَّم بوصفه صاحب ميولٍ جنسيةٍ أو رغباتٍ مختلفة، بل كإنسانٍ يُفتّش عن ذاته الحرة خلف جدار الصورة النمطية للرجولة.
الفستان، واللانجري، والكعب العالي ليست رموزًا للأنوثة، بل أدوات لاستعادة التوازن النفسي بين ما يريده المجتمع منه، وما يريده هو لنفسه.
إنها لحظة اختبارٍ وجودي أكثر منها رغبة جسدية؛ تجربة في أن يكون الإنسان "هو" بلا أقنعة، ولو للحظة واحدة.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.