السينما ونفي المجتمع

 

🎬 السينما ونفي المجتمع

---------------------



تقوم السينما أحيانًا بتناول موضوعات شديدة الجدية، وتحاول تشريحها بعمق وصدق، خصوصًا تلك التي تمس جوهر المجتمع وتناقضاته.
ففي مراحلها الأولى، ركزت السينما المصرية على قضايا الفقر والجهل والمرض باعتبارها الموانع الأساسية لنهضة الإنسان والمجتمع، وقدمت نماذج إنسانية متألمة لكنها كانت تحمل دائمًا نواة الأمل في التغيير.

ومع تطور الوعي السينمائي، تحولت البوصلة إلى السياسة، وبدأت الأفلام ترمز إلى القهر الاجتماعي والاستبداد السلطوي، مستخدمة لغة المجاز كي تتفادى الرقابة، ومعبّرة عن الرفض بطريقة ذكية وشاعرية.
لكن رغم هذا التطور في الشكل والمضمون، ظلّ الخلل قائمًا في الفكرة الجوهرية: غياب المجتمع كقوة فاعلة.


🎭 البطل الخارق... والمجتمع الغائب

فالسينما –من حيث لا تدري أحيانًا– أسهمت في نفي المجتمع وتكريس صورة البطل الفرد، الذي يقوم وحده بالتغيير بينما يبقى الناس في دور المتفرجين.

حين نرى فاطمة في الزوجة الثانية تتحدى السلطة الإقطاعية، أو فؤادة في شيء من الخوف تواجه الجبروت بالحب والصدق، فإننا أمام بطلات عظيمات فنيًا، لكنهن يرسّخن ضمنًا فكرة أن الحل لا يأتي إلا من فرد استثنائي، لا من وعي جماعي قادر على الفعل.

وهكذا تتكرر المعادلة في عشرات الأفلام:
بطل خارق، ومجتمع صامت.
صراع فردي، وغياب تام للجماعة.
وكأن التغيير لا يتحقق إلا عندما يمنّ علينا القدر بـ"Super Hero" يقتحم المشهد ليعيد التوازن.

إن هذا المنظور السينمائي يُنتج لا وعيًا جمعيًا خطيرًا؛ إذ يجعل الجمهور –في قاعة العرض وفي الحياة أيضًا– ينتظر المنقذ، بدل أن يكون هو نفسه المنقذ.
وبذلك تتحول السينما، من دون قصد، من أداة تنوير إلى أداة تخدير ناعم، تغسل الضمير الجمعي من مسؤولية الفعل والتغيير.


🌍 من فاطمة إلى اليوم: تحوّل خطاب البطولة

من فاطمة في الزوجة الثانية إلى أبطال وبطلات اليوم في أفلام مثل ريش ويوم الدين والحارة، يمكن ملاحظة تحوّل عميق في خطاب البطولة داخل السينما المصرية والعربية.

فلم يعد البطل بالضرورة منقذًا خارقًا أو شخصية مركزية تمتلك الحقيقة وحدها، بل أصبح كائنًا هشًّا، يحمل جراحه ويبحث عن ذاته وسط فوضى العالم.
إن البطولة هنا لم تعد في “الفعل البطولي” بل في القدرة على البقاء والمواجهة اليومية.

السينما الحديثة –رغم اختلاف مستوياتها– بدأت تقترب من المجتمع بدل أن تضعه في الخلفية.
أبطالها ليسوا رموزًا أسطورية بل مرايا للبشر الحقيقيين؛ للفقراء، للمهمشين، للمقهورين، ولأولئك الذين يصنعون التغيير بصمت، لا بخطابات بطولية.

وهكذا، بدأت ملامح الوعي الجديد تتشكل:
لم نعد ننتظر “فؤادة” أو “عبد الجبار” آخر،
بل بدأنا نرى البطولة في الناس العاديين، في الشارع، في تفاصيل الحياة اليومية.
وهذا هو التحول الأخطر والأجمل في آن واحد:
أن تستعيد السينما المجتمع بعد أن نفته طويلًا من شاشتها،
وتجعله أخيرًا البطل الحقيقي للحكاية.


🎥 السينما حين تعيد الإنسان إلى موقعه في الصورة

حين تتوقف الكاميرا عن تمجيد البطل الفرد، وتبدأ في رؤية الناس جميعًا كبشر لهم ملامح وأحلام وأصوات، عندها فقط تستعيد السينما معناها الأول: أن تكون مرآة للمجتمع لا مسرحًا للمنقذين.

فالسينما ليست حكاية عن “من انتصر”، بل عن لماذا نحاول جميعًا أن ننتصر.
وحين يصبح الإنسان العادي في قلب الكادر، تتحول الصورة من مشهد فني إلى فعل مقاومة،
ومن حكاية شاشة إلى حكاية وطن.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.