الأنا والمجتمع
بقلم محسن عباس
---------
رانيا تؤمن بقداسة وقارها. الحجاب عندها ليس مجرد مظهر؛ هو حصن تصونه من كل ميل داخلي خطِر، ودرع يمنحها استقامة أمام العائلة، الجيران، وزوجها فادي، الذي تقضم غياب أيامه بصمت. حركتها محسوبة، مشيتها هادئة كما لو أنها تمشي على خيط، وصوتها منخفض مخملي — لا يرفع ضجيجًا ولا يثير شبهة. هذه الواجهة لم تكن قناعًا سطحيًا فحسب، بل حصنًا أقنعت نفسها بضرورته، ملاذًا أمام نصال مجتمع قاسٍ.
وراء الحصن كان كيان آخر يغلي: رغبة جامحة لم تفلح سنوات الانضباط في ترويضها. روحها كانت خزان شوق، يتوق لفهم عاطفي وجسدي جفت منه سنين عمرها. كان هذا الطوق الداخلي ينتظر شرارة، وكانت شرارته حب قديم لعصام، ابن خالتها.
قبل أسابيع، في متجر كبير، اخترق أذنيها صوت مألوف. التفتت فوجدته، ولفتة ابتسامته حملت ومضة من الماضي المنسي. لثوانٍ توقف الزمن. أنفاس رانيا تلاحقت بصمت، قلبها يتأرجح بين الحذر والرغبة. تبادلوا الأرقام لتنسيق زيارة عائلية، لكن بالنسبة إليها كان اللقاء مفتاحًا لعوالم مغلقة منذ سنين.
في ساعات المساء، جلست رانيا أمام المرآة، تداعب حجابها، تتأمل صورة قديمة لعصام على الهاتف. أرسلت له رسالة تقول: «تذكرت ضحكاتنا القديمة يا عصام… كم تغيرنا.» كانت الجملة الأولى في هدم أسوارها. تلاها سيل من الرسائل: بدايات بريئة تحولت تدريجيًا إلى نقب في الذكريات، كأن كل كلمة تزيل حجرًا من جدار حصنها. قلبها كان يتردد بين النشوة والخوف، بين التمرد والالتزام.
التقيا عدة مرات، وفي كل لقاء كانت رانيا تُسقط حاجزًا آخر من صرامتها بدقة جراحية. يميل صوتها دفئًا، تتحرر خطواتها شيئًا فشيئًا، وتبدأ أنوثة معدّة منذ زمن طويل في توفير مسرحها الخاص. في الليلة التي سبقت اللقاء الأكبر، رتبت شقتها هستيريًا: كل زاوية مضاءة بعناية، كل قطعة قماش مفرودة بدقة، كل شيء يلمع كما لو أنه يعكس شعلة الرغبة الداخلية.
حين قرع الباب، فتحت نصفه ونظرت إليه بعينين تحملهما ثِقْل القرار: «تعال، لكن بحذر.» دخل عصام، وأغلقت الباب. كانت في ملابس داخلية مثيرة إعلانا صريحًا برغبة طال كتمها. خطواتها كانت انسيابية ومتحررة، صوتها خافت وجسور، كأنها تتحدث بلغة جديدة لم تتعلمها إلا الآن. التوتر تصاعد؛ كل لمسة وكل نظرة كانت تفجيرًا لما كُبت. اندفعت نحو اللقاء بغريزة طاغية، تجسد التمرد كاملاً. كان اللقاء عاصفًا، أقرب إلى معركة بين إرادة مشتغلة وذكورية مباغتة. بعد انتهائه، حمل الصمت ثِقلًا، والسرير يحمل علامة عبور — أثرٌ من دمٍ قرأته رانيا كأسم تكريم لانتصار داخلي. ردّت بعد ذلك برسالة تحمل نشوة: «أمتع ليلة في حياتي… فيه دم على السرير، بس مش مشكلة.»
تكررت اللقاءات، وتعاظم ازدواج الوجود. كان قلبها يتأرجح بين الخوف والتمرد، بين الفرح بالحرية والقلق من كشف السر. عندما اكتشفت زوجة عصام الرسائل وثار أهل العائلة، كانت رانيا سريعة في خطتها: حجزت وسافرت إلى فادي. لم يكن سفرًا هروبًا؛ كان استعراض التزام. أمام العائلة، كانت الزوجة الملتزمة مجددًا، حجابها مشدودٌ كدرع، وابتسامتها محسوبة.
مع فادي أعادت أداء الدور ببراعة؛ جسدها معه، لكن روحها تطير مع عصام. وفي لحظة احتياج، استثمرت حاجات الزوج — طلبت مبلغًا ضخمًا بحجة مستقبل البنات، وفادي وافق، مطواعًا لدور الأب والزوج. داخليًا كانت تقول: «أريد الإطار والأمان منك، والحرية والروح المتمردة من عصام. أريد كل شيء.»
في النهاية اختارت رانيا التكتيك: عادت إلى واجهتها المثالية بمظهرٍ أقوى، محجبة ومتألقة في التزامها. لكن الانضباط كان الآن أداة، ليست استسلامًا: حصنٌ خارجي تخبّئ وراءه طمعًا بحريّةٍ مطلقة ووجودًا مزدوجًا تملكه بذكاء. أمام العالم امرأة مثالية؛ داخلها امرأة رفضت التخلي عن رغبتها في التحرر. وكلما مرت بجانب المرآة، لم ترى صورة الزوجة الصالحة، بل غابة من التمرد تنتظر فرصة الاشتعال مجددًا، كما لو أن الليل وحده يحمل مفتاحًا لهذا العالم المخفي.


0 التعليقات