الحنان المسموم
في البيوت التي يغيب عنها الحنان، تولد المشاعر مشوّهة، وتتشكل المحبة على هيئة خوف.
تلك الحكاية ليست عن أبٍ مجرمٍ ولا عن ابنةٍ ضحيةٍ فحسب، بل عن لحظةٍ واحدةٍ من الضعف الإنساني حين يتحول الحب إلى مأزقٍ أبدي.
كانت صفعةُ أمّها تهبط على خدِّها كالمطرقة، لا لتؤلم جسدَها فقط، بل لتحطّم عالمَها الصغير.
كلُّ صفعةٍ كانت مصحوبةً بكلمةٍ قاسية: "أدب"، "احترام"، "تأديب".
لم تكن تفهم سوى أن الألم هو اللغة الوحيدة في البيت، وأن الدموع صارت طريق النجاة المؤقتة.
وحين هرعت باكية إلى أبيها، وجدته ينتظرها في صمتٍ غامض.
انكمشت بين ذراعيه كما يلجأ العصفور المهشَّم إلى عشّه الأخير.
لم يقل شيئًا، فقط احتواها بساعديه، وأراح رأسها على صدره.
كانت دقّات قلبه تسري في جسدها كأنها تهدهد خوفًا قديماً.
في ذلك الملاذ الدافئ، استسلمت للنوم لأول مرةٍ بلا وجع.
حين استيقظت، كان الصباح يتسلّل من خلف الستائر، ووجه أبيها النائم يبدو كبحرٍ هادئ بعد العاصفة.
شعرت بنشوةٍ غامضةٍ تمتزج فيها الراحة بالفخر الطفولي، كأنها انتصرت أخيرًا على أمّها.
ذلك الشعور كان بداية الحكاية… أو بداية الهاوية.
مرت الأيام، وتحوّل الصمت بين الأب والأم إلى جدارٍ سميك،
بينما المسافة بينها وبينه كانت تضيق حتى صارت خنقةً ناعمة.
لم تعد تخاف صفعات الأم، بل تبتسم في سرّها كلما وبّختها،
كأنها تقول: “هو لي أنا.”
لكنّ شيئًا غريبًا بدأ يسكنها.
دفءٌ يربكها، نظراتٌ تطول أكثر مما ينبغي،
وصمتٌ يحمل ما لا يُقال.
كانت تخاف من إحساسٍ لا تعرف له اسمًا،
وتشتاق إليه في الوقت نفسه.
وحين بلغت أولَ عمرٍ تفهم فيه معنى التحوّل، أدركت الحقيقة القاسية:
أن أباها لم يكن وحشًا كما تُروى القصص،
بل رجلًا مكسورًا، أسقط حرمانه على أقرب ما لديه من براءة.
وأنها، دون وعيٍ منها، كانت المرآة التي يرى فيها حبًّا فقده، وأمانًا لم يعرف كيف يحتفظ به.
منذ تلك اللحظة تغيّر وجه العالم في عينيها.
صارت تتهرّب من الحنان، وتخاف القرب،
وترى في كل رجلٍ ظلًّا لذلك الصمت الذي غرس فيها رعب الحبّ ومرارة الأمان.
كبرت، ونجحت، وتغيّر شكلها،
لكن الطفلة التي نامت في حضنه لم تكبر يومًا.
كانت تصحو في الليالي الباردة، تسمع صوته القديم، وتشعر بيدٍ من الذكرى تمسّ كتفها.
فترتعش، ثم تبتسم بحزنٍ لا تفسير له.
وفي الثلاثين، قررت أن تتكلم.
جلست أمام الطبيب النفسي، وحين سألها عمّا يؤلمها، قالت بصوتٍ مبحوح:
– الخوف من الحنان.
بدأت بعدها تكتب.
صفحاتٍ كثيرة ملأتها بحكاية طفلةٍ أحبّت أباها أكثر مما ينبغي،
وأبٍ أحبّها بطريقةٍ لم يعرف لها اسمًا.
لم تكتب لتدين، بل لتفهم.
وحين رحل الأب، جلست إلى جوار جثمانه، لم تبكِ.
مدّت يدها ولمست جبينه البارد، وقالت همسًا:
“الآن فقط، انتهى الصمت بيننا.”
خرجت من الغرفة بخطواتٍ ثابتة،
وفي قلبها سلامٌ يشبه الغفران دون نسيان.
لقد أدركت أخيرًا أن النجاة لا تأتي من إنكار الجرح،
بل من تسميته باسمه الحقيقي:
الحنان المسموم.