الإنسانية أولًا
في زمنٍ تاهت فيه المعاني بين ضجيج المظاهر، وصار اللسان أكثر تدينًا من القلب، تعود الإنسانية لتسأل الإنسان: هل ما زلت تعرف من أنت؟
الإنسانية ليست شعارًا يُرفع، ولا خُطبة تُقال، ولا منشورًا يُشارك على مواقع التواصل.
الإنسانية أن تكون إنسانًا قبل أن تكون متدينًا أو مثقفًا أو سياسيًا.
أن تمتلك وعيًا بالقيم العليا — الحق، والخير، والجمال، والأخلاق، والاحترام — وأن تحاول، ما استطعت، أن تجعلها جزءًا من حياتك اليومية، لا مجرد كلمات تُتلى في المناسبات.
كل الأديان السماوية، رغم اختلاف الشرائع والطقوس، جاءت لتغرس في الإنسان معنى الخير، وتحذّره من الشر.
فالمقصد واحد، والغاية واحدة: تهذيب النفس وإحياء الضمير.
الدين الحقيقي ليس ما يظهر على الجبين من أثر السجود، بل ما يسكن القلب من رحمةٍ وعدلٍ وسماحة.
إنّ ما تعانيه البشرية اليوم ليس فقرًا في الوسائل، بل نقصًا في المعنى.
نملك كل أدوات الراحة، لكننا نفتقد راحة الضمير.
نعيش ازدحامًا في التكنولوجيا، وفراغًا في القيم.
صار الإنسان أكثر اتصالًا بالعالم، وأقل اتصالًا بذاته.
قال رسول الله ﷺ:
«ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس».
(حديث حسن، رواه ابن ماجه بأسانيد حسنة).
الزهد لا يعني رفض الدنيا، ولا كراهية الحياة، بل التحرر من عبودية المقارنة ومن لهاث الامتلاك.
أن تكتفي بما في يدك دون حسدٍ لما في يد غيرك، فتستعيد طمأنينتك الداخلية.
حينها يصبح البسيط كافيًا، والقليل كثيرًا، وتعود القلوب إلى صفائها الأول.
وقال ﷺ أيضًا:
«إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق».
تلك الجملة الموجزة تختصر غاية الرسالات السماوية كلّها.
فالقيم هي لبّ الدين وروحه. وما لم تتحوّل العقيدة إلى سلوك، فإنها تظلّ نظرية لا تُثمر.
فليس المتدين من يُتقن الجدل، بل من يُحسن الفعل.
وليس من يُكثر القول، بل من يُقلّل الأذى.
الإنسانية، في جوهرها، فنّ العيش النبيل؛
أن تمتلك روحًا تعرف المعاني الحقيقية للمُثل العليا، وتحاول جاهدًا أن تجسّدها في سلوكك وأقوالك ومواقفك اليومية.
أن تكون رحيمًا في موضع القسوة، صادقًا في زمن الكذب، نزيهًا حين يسهل الغش، كريمًا حين يعزّ العطاء.
لقد تحوّل العالم المعاصر إلى مسرحٍ كبير للأقنعة.
الكل يتحدث عن الأخلاق، وقليلون من يعيشونها.
الكل يطالب بالإنسانية، وقلّ من يمارسها.
إنها المفارقة الكبرى في عصرٍ كثرت فيه الشعارات وقلّت الممارسات.
فالإنسان لا يُقاس بما يعلنه من مبادئ، بل بما يفعله حين لا يراه أحد.
الإنسانية ليست مثالية بعيدة المنال، بل خيارٌ يومي.
كل موقف بسيط يمكن أن يكون امتحانًا صغيرًا للضمير:
كيف تتعامل مع الضعيف؟
كيف تتحدث عن الغائب؟
كيف تستعمل قوتك حين تُتاح لك؟
نحن بحاجة إلى أن نعيد تعريف التدين لا باعتباره مظهرًا طقوسيًا، بل حالة أخلاقية شاملة.
فكل صلاة بلا خلق ناقصة، وكل علم بلا رحمة أجوف، وكل عبادة بلا إنسانية مجرّد شكلٍ بلا روح.
إنّ العالم اليوم لا يحتاج إلى مزيدٍ من الوعظ، بل إلى قدوةٍ صامتة، تُعلّم بالفعل لا بالكلام.
الإنسانية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة إنقاذ.
فحين يعود الإنسان إلى جوهره، ويُعيد ترتيب أولوياته بين ما يملك وما هو،
عندها فقط يستعيد إنسانيته... ويستعيد العالم توازنه.
✍️ بقلم: محسن عباس
كاتب ومفكر مصري