سينما الرفض: "وراء الشمس" نموذجًا
بقلم: محسن عباس
----------------------------
في زمنٍ تتبدّل فيه الوجوه وتبقى البُنى القديمة كما هي، تبدو السينما أصدق من نشرات الأخبار. هناك، على الشاشة، يمكن للفن أن يقول ما يخشاه السياسي، وأن يفضح ما تحاول السلطة دفنه في الظل.
بين الفن والموقف
في تاريخ السينما المصرية، وُلد تيار خافت لكنه عنيد، يرفض الصمت أمام السلطة، ويحوّل الشاشة إلى ساحة مقاومة رمزية. هذا التيار، المعروف بـ سينما الرفض، لا يكتفي بتصوير المأساة، بل يتعمّد فضحها وتفكيك آلياتها من الداخل.
ومن أبرز تجليات هذا التيار فيلم "وراء الشمس" (1978) للمخرج محمد راضي، تأليف حسن محسب، وبطولة نجلاء فتحي، فريد شوقي، محمود المليجي، وأحمد زكي.
هذا الفيلم لم يكن مجرد دراما سياسية، بل بيان بصري ضد القمع، يضع المشاهد أمام مرآة الدولة التي تدّعي حماية الوطن بينما تُدمّره من داخله.
الزمن كأداة رفض
المفارقة الكبرى أن الفيلم يبدو وكأنه من إنتاج المستقبل لا الماضي. فرغم تسجيله رسميًا كعمل يعود إلى 1978، فإن لغته الدرامية وشحنته السياسية تكاد تجعله متطابقًا مع واقع ما بعد 2016: الرقابة المتخفية، السلطة البيروقراطية، والخلط بين الوطنية والطاعة العمياء.
هكذا يتحوّل الفيلم إلى آلة زمنية، لا تستعيد الماضي فقط، بل تفضح استمرارية القهر ذاته عبر العقود.
إنه يعلن رفضه لفكرة "الحقبة الاستثنائية"، مؤكدًا أن الاستبداد ليس حدثًا عارضًا، بل بنية متجددة تتكيّف مع كل عصر.
الذاكرة كفعل مقاومة
يدعو الفيلم المشاهد إلى تفعيل الذاكرة النقدية، أي استخدام الماضي كعدسة لقراءة الحاضر.
فهو يذكّرنا أن ما يُقدّم في الإعلام بوصفه "حادثة فردية" أو "خطأ محدود" ما هو إلا تكرار لنمط قديم يعاد إنتاجه بأسماء جديدة.
الرفض هنا ليس سياسيًا فحسب، بل وجودي — رفض لفكرة النسيان، رفض للعيش في زجاجات مغلقة من الخوف والتبرير.
الرفض الجمالي: حين تتكلم الكاميرا
يمزج "وراء الشمس" بين الواقعية القاسية والرمزية العميقة. فالإضاءة الخافتة، والمواقع المهجورة، والحوارات المقتضبة، كلها أدوات لبناء خطاب بصري ناقد.
في أحد المشاهد البارزة، نرى السجين يُحاصر في غرفة بلا نوافذ، فيما يعكس الزجاج وجه الجلاد على وجهه — لحظة بصرية مذهلة تُعبّر عن ذوبان الضحية في صورة مضطهده.
الكاميرا هنا ليست محايدة، بل شاهدة ومُتهمة في الوقت ذاته.
وفي زمن الرقابة، تصبح الرمزية درعًا للجمال، ووسيلة لتجاوز المنع دون الوقوع في فخ الصراحة الساذجة.
الفن كوثيقة سياسية
يحوّل الفيلم التجربة الفردية إلى وثيقة فنية للمجتمع، تعيد تعريف مفهوم الوطنية، وتطرح السؤال الأخلاقي الأهم:
هل يمكن للوطن أن يحمي نفسه عبر قمع أبنائه؟
بهذا المعنى، يصبح "وراء الشمس" ليس فقط نقدًا للسلطة، بل نقدًا لفكرة السلطة ذاتها حين تفقد بُعدها الإنساني.
إنه فيلم يذكّرنا بأن السينما، حين تُفكّر، تتحوّل إلى شكلٍ من أشكال المقاومة المدنية.
خاتمة: وراء الخوف
ما يجعل "وراء الشمس" عملًا خالدًا هو أنه رفض مزدوج: رفض سياسي للظلم، ورفض جمالي للسطحية.
هو فيلم لا يشيخ، لأن الواقع الذي يفضحه لم يتغيّر بعد.
يبقى شاهدًا على أن الفن الصادق لا يخضع للرقابة ولا يخاف الزمن.
إنه يقف، كما عنوانه، وراء الشمس... ووراء الخوف نفسه.
محسن عباس – كاتب ومفكر مصري مهتم بعلاقة الفن بالسلطة وبنية الوعي الجمعي في الثقافة العربية.


0 التعليقات