الإنسان بين الوهم والهاوية
"عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"…
ربما خُلقت لتُقال لا لتتحقق، فحين يشبع الإنسان يبحث عن سلطة، وحين يتحرر يبدأ في قهر غيره باسم الحرية، وحين تُقام العدالة يشتاق إلى الامتياز. أما الكرامة، فهي أول ما يُساوم عليه إذا خاف أو جاع.
الإنسان لا يريد العدالة، بل العدالة التي تخدمه. لا يريد الحرية، بل حرية تُقيّد الآخرين وتُطلق يده. لا يريد الكرامة للجميع، بل كرامة ترفع شأنه وحده. وهكذا، نرفع الشعارات لنغطي بها عجزنا، لا لنُغيّر العالم. نؤمن بها لأنها تريحنا، تجعلنا نبدو أفضل مما نحن عليه. وربما كانت الفكرة كلها وهمًا نبيلًا… نحتاجه كي نحتمل بشاعة حقيقتنا.
حكمة القيد
ومع ذلك، قد يكون هذا "الوهم النبيل" هو القيد الوحيد الذي يمنع الإنسان من الانزلاق الكامل في وحل طبيعته. فالمؤسسات والقوانين، وكلها وُلدت من رحم هذه الشعارات، لا تُغيّر القلب البشري، بل تفرض كلفة عالية لخرقها.
قد لا نرغب في العدالة لأنفسنا، لكننا نخاف من نتائج الظلم إن وقع علينا. لذلك، فالوهم ليس مجرد راحة نفسية، بل إطار اجتماعي يُلزمنا بالتمثيل الجيد كي نعيش معًا. فالمجتمعات لا تقوم على طهارة النوايا، بل على حكمة القيد.
كل ما هو عظيم في الإنسان وُلد من القيد:
الفن من قيد اللغة، الفكر من قيد الجهل، الفضيلة من قيد الشهوة، وحتى الحب لا يكتمل إلا حين يُحاصر بالمستحيل.
القيد ليس نقيض الحرية، بل شرطها الخفي. لأن الحرية المطلقة تشبه الصحراء: لا ظل، لا حدود، ولا حياة. فما قيمة أن تسير إلى الأبد، إن لم يكن هناك جدار ترتد عنه أو باب تتجاوزه؟
الطفل لا ينضج إلا حين يُمنع، والمجتمع لا يستقيم إلا حين يخاف، والفرد لا يعرف ذاته إلا حين يصطدم بما لا يستطيع تجاوزه.
لقد فهمت البشرية، متأخرة، أن العدالة لا تولد من طهارة النفوس، بل من توازن الردع، وأن الأخلاق ليست نبعًا من القلب، بل نظامًا من القواعد يفرض على القلب أن يتعلم الحياء.
ربما لهذا، لا يجب أن نحلم بعالم بلا قيود، بل بعالم يعرف أيّ القيود يستحقها. فبعضها يحميك من الآخرين، وبعضها يحميك من نفسك.
الحرية إذًا ليست أن تُكسر السلاسل، بل أن تعرف أيّها يجب أن تبقى في معصميك.
الحرية والهاوية
الحرية حلم جميل… حتى تتحقق.
عندها فقط ندرك أنها باب مفتوح على الهاوية. فالإنسان حين تُرفع عنه الأسوار لا يطير، بل يسقط. وحين يُترك لخياراته الكاملة، يكتشف أن أكثر ما يخيفه هو نفسه.
الحرية التي لا يسندها وعي تتحول إلى فوضى، والفوضى دائمًا تبحث عن سيد جديد يُعيد النظام. هكذا يولد الطغاة من رحم الحرية، ويُستدعى السيف باسم حماية الحلم.
من لم يتعلم الانضباط في الحرية، سيُقاد في النهاية إلى العبودية طوعًا، طلبًا للراحة من ثقل الاختيار.
فالحرية ليست حقًا يُمنح، بل عبء يُحمل. وهي لا تعني أن تفعل ما تريد، بل أن تعرف لماذا تفعله ومتى تتوقف.
كل مجتمع يُفرِط في الحرية يجد نفسه مضطرًا إلى ابتكار قيد جديد، وغالبًا ما يكون هذا القيد أقسى من الذي هدمه. وهكذا تمضي البشرية في دورتها الأبدية: تحرر، فوضى، خوف، ثم قيد باسم النجاة.
لكن المدهش أن هذا التناقض هو ما يُبقيها حية، تمامًا كما يبقى القلب نابضًا لأنه ينقبض وينبسط.
الحرية إذًا ليست نقيض النظام، بل هي لحظة الخطر التي تُذكّرنا بأننا ما زلنا بشرًا، نحتاج دائمًا إلى جدار نرتد عنه قبل أن نسقط في الهاوية.
التضحية بالوهم لأجل الحقيقة
وفي خضم هذه الدورة الأبدية بين التحرر والقيد، يبقى هناك بصيص نور نادر: أولئك الذين يختارون أحيانًا تجاوز الوهم النبيل، لا طلبًا لسلطة أو مجد، بل بحثًا عن حقيقة مؤلمة.
هم الذين يضحّون بكرامتهم لا خوفًا من الجوع، بل لإنقاذ كرامة الآخرين. قلة نادرة، لكنها تذكّرنا أن الإنسان قادر، رغم بشاعة حقيقته، على ابتكار قيدٍ من نوع آخر: قيد الالتزام الأخلاقي الطوعي.
هؤلاء هم من يحملون عبء الحرية بوعي كامل، ويختارون أن يكونوا جدارًا لغيرهم، حتى لو سقطوا هم في الهاوية.
وبذلك، يتحول الوهم من قيد اجتماعي مفروض، إلى طاقة روحية تحفظ إمكانية الحلم، وتُبقي الشعارات الكبرى حيّة في ذاكرة البشرية.


0 التعليقات