من بليغ إلى البلاي ليست: حين هزّ الوسط مكان الوجدان

 

من بليغ إلى البلاي ليست: حين هزّ الوسط مكان الوجدان

------------------------------------------------------



بقلم: محسن عباس

فى زمنٍ لم يكن فيه الفن وسيلة ترفيه فحسب، كان اللحن يُنحت كما تُنحت القصيدة، وكانت الكلمة تُكتب بروح العالم لا بروح السوق. كان بليغ حمدى، على سبيل المثال، يسكب روحه فى كل نغمة، فتولد الأغنية ككائنٍ كامل الحياة. فى أغنية واحدة لبليغ، تجد ثراءً موسيقيًا يكفى لجيلٍ كامل من المنتجين الحاليين. تتبدّل الجمل، تتنفس، تتحاور، وتغتنى دون أن تفقد تماسكها. كل جملة لحنية عنده ليست زخرفًا بل فكرة، ليست للتطريب بل للتعبير.

وإن نظرت إلى كلمات شاعرٍ بحجم أحمد رامى، ستدرك أن الكلمة كانت آنذاك فعل تفكير، لا مجرد قافية موزونة. حين يقول: "لقيت نفسى بفكر فيك وأنا ناسى"، لا يتحدث عن حبٍ عابر، بل عن دهشة الإنسان أمام التناقضات التى تصنع وعيه. كان الشعر فى الأغنية جزءًا من مشروع ثقافى يربط الإنسان بنفسه وبالعالم، لا استهلاكًا سريعًا للعبارة الجميلة.

أما اليوم، فالحال لا يخفى على أحد. من بداية التسعينات، انزلقت الأغنية العربية من سماء الروح إلى أرض الإيقاع. أصبحت الكلمات مرصوصة بلا عمق، أحيانًا يتناقض الشطر مع الآخر، المهم أن تلتقى القافية، وأن تشتعل الموسيقى الصاخبة لتغطى أى عوار فى المعنى. لم يعد هناك لحن يُبنى، بل آلات تُعيد جملتين على مدار خمس دقائق، حتى صار التكرار بديلاً عن الإبداع. الأغنية لم تعد تُسمع بالقلب أو الأذن، بل تُستهلك بالقدم وهزّ الوسط.

في زمن "البلاي ليست": سيادة التوزيع والتريند

لقد تحولت الموسيقى من وسيلة تأمل إلى وسيلة استهلاك. هذا التدهور لم يكن فنياً خالصاً بل جاء نتيجة حتمية لتغيرات تقنية واقتصادية:

  • سيطرة التوزيع على اللحن: في العصر الرقمي، أصبح التوزيع الموسيقي (المعتمد على البرمجيات والإيقاعات المُعدّة مسبقاً) هو البطل بدلاً من اللحن الأصيل. هذا التوزيع الصاخب يغطي تماماً على فقر اللحن، ويجعل الأغنية تعتمد على "الصوت العالي" و"الضربات القوية" بدلاً من "الجملة الموسيقية المُعقدة". الأغنية لم تعد تُبنى على ثراء المقامات العربية (كالسيكا والنهاوند) بل على تبسيط المقامات والموديلات اللحنية البسيطة.

  • ثقافة "التريند" القابلة للاشتعال: لم يعد الهدف هو الخلود، بل الانتشار السريع و"الاشتعال" على منصات التواصل عبر مقاطع قصيرة. هذا يتطلب جملة مفتاحية بسيطة جداً وإيقاعاً يفرض الحركة الفورية، حتى لو كان ثمن ذلك هو التضحية بالبناء الدرامي واللحني الكامل للأغنية. لم يعد هناك مشروع فكرى وراء اللحن أو الكلمة، بل معادلة جاهزة: إيقاع سريع + جملة سهلة + فيديو كليب صارخ = نجاح تجارى.

ومع ذلك، يبقى الأمل فى الأصوات التى لم تستسلم. أنغام، على الحجار، محمد منير — محاولات جادة للحفاظ على ما تبقّى من الجمال وسط الضجيج. لم يعودوا يطاردون "التريند" بل يبحثون عن الحقيقة. ولعل هذا ما يمنحهم البقاء، لأن الفن الذى لا يحمل وعياً يُنسى مهما انتشر، بينما الفن الذى يلمس القلب يخلد ولو لم يُذاع.

إن ما نعيشه ليس أزمة موسيقى فحسب، بل أزمة وعي. حين تفقد الشعوب قدرتها على التمييز بين اللحن والضجيج، بين الشعر والعبارة، بين الفن والمنتج، تفقد جزءًا من روحها. إن الأغنية التى كانت تصنع مشاعرنا أصبحت تُستعمل لتخديرها، وحين تُخدّر الروح لا يبقى فى المجتمع سوى الجسد الراقص على أنقاض الإحساس.

لذلك، ربما يكون السؤال اليوم: هل يمكن أن نعود لنسمع بأرواحنا لا بآذاننا؟

الإجابة تبدأ حين ندرك أن الفن ليس ترفاً، بل هو شكل من أشكال الوعي، وأن الانحدار الموسيقي ليس سوى مرآة لانحدار الفكر ذاته. وحين نعود لنميز بين بليغ الذى لحن للوجدان، وبين ضجيج "البلاي ليست" الذى يلحن للغفلة، سنعرف أننا بدأنا طريق الشفاء من هذا الاضمحلال.

تحية إلى جيل الجمال

إننا نُهدي هذا النداء إلى كل روحٍ رفضت المساومة على قيمة الإحساس. تحيةً إلى بليغ حمدي الذي نحت في الوجدان سبيلاً، وإلى أحمد رامي الذي صاغ الدهشة في كلمة، وإلى عبد الرحمن الأبنودي الذي جعل من الشعر لغة المقاومة الشعبية. وتحيةً للأصوات التي تحمل شعلة الوعي اليوم: محمد منير، وأنغام، وعلي الحجار، وكل فنان يدرك أن اللحن رسالة لا ضوضاء. أنتم البوصلة التي تشير إلى أن الفن ليس ترفاً، بل هو شكل من أشكال الوعي الذي يجب أن نستعيده.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.