ثقب الإبرة والفراغ الداخلي

 

ثقب الإبرة والفراغ الداخلي

=========



الفراغ الروحي، ذلك الخواء العميق الذي يزحف في النفس حين يغيب الهدف عن الحياة، يجعل الفكر يتوه بلا هدى، والروح تتثاقل بلا إشراق. في هذا الفراغ تتبلور الوحدة كصحراء واسعة، لا صوت فيها سوى صدى الذات الضائعة، ويصبح كل لحظة تأمل بلا جدوى، وكأن الإنسان يسير على رمال جامدة لا تعرف طريقًا للخروج. الفراغ ليس مجرد غياب انشغال، بل حالة متجذرة في الروح، تولد القلق، واللامبالاة، وتفتح الطريق أمام الفضول المسموم الذي يقود أحيانًا إلى التلصص.

التصحر العاطفي مرآة صامتة لهذا الفراغ؛ علاقات بلا دفء، لقاءات بلا حضور، محادثات بلا صدى. في قلب هذا الفراغ، يتحول الإنسان إلى متفرج على حياة الآخرين، يراقب ولا يشارك، يرى العالم من ثقب الإبرة بلا أن يلمسه، بلا أن يشعر به. العلاقات السطحية، الكلام الذي لا يصل القلب، الابتسامات الخالية من إحساس، كلها تؤجج شعور الوحدة وتزيد الحاجة إلى مراقبة الآخرين بدل مواجهة الذات.

التلصص، إذن، ليس مجرد فضول بسيط، بل هو انعكاس للضعف والخوف. المتلصص يبحث عن أخطاء الآخرين ليطمئن قلبه بأن نقائصه ليست فريدة، وأنه ليس وحيدًا في عجزه وهزيمته. إنه طريق خفي يخفف شعور الهزيمة، لكنه يبعده عن الحقيقة، عن مواجهة ذاته، عن الشجاعة للعيش بصدق. التلصص فعل خسيس لأنه يحوّل حياة الإنسان إلى نافذة مراقبة، بدل أن يكون مشاركة حقيقية، ويغذي روح العزلة بدل تحريرها.

الفراغ الروحي قد يولّد التلصص، لكنه لا يبرره. التعامل مع هذه الشخصية يحتاج إلى حدود واضحة، ووعي كامل بأن العزلة تغذي هذا الميل، وأن التجسس على الآخرين يزرع العداء بدل الصداقة، ويؤذي النفس قبل الآخرين. فالحدود ليست جدارًا يقيد الحرية، بل درعًا يحمي الإنسان من نفسه ومن ضعفه.

الشرع وضّح هذا بصرامة: التجسس وملاحقة عورات الناس محرم، قال الله تعالى: "ولا تجسسوا"، وقال رسول الله ﷺ: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا يغتاب المسلمون ولا يتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته". كل مراقبة للآخرين، وكل فضول في حياتهم، ليس مجرد خطأ اجتماعي، بل تجاوز أخلاقي وروحي، يُفضح أمام الله قبل الناس.

الخلاص من هذا الدوامة يبدأ بملء الفراغ الروحي بما ينفع: بالعمل الصالح، بالمعرفة، بالعلاقات الصادقة، وبالتأمل العميق في النفس قبل الحكم على الآخرين. الإنسان الذي يتحرر من الخوف، ويواجه وحدته، ويغذي روحه بما ينفع، يتحول من متلصص متفرج إلى مشارك فاعل في حياته وحياة الآخرين. يصبح الفراغ مساحة للإبداع، والعزلة فرصة للنمو، والمراقبة نشاطًا متأملًا بدل الفضول الضار.

الحياة لا تُفهم إلا بالانخراط فيها، لا بالمراقبة من بعيد. ولتكن أعيننا صافية، لا ترى الحياة من ثقب الإبرة، ولتكن قلوبنا شجاعة، تتجاوز الخوف والضعف، لتملأ الفراغ الروحي بالمعنى، بالحب، بالصدق، وبالمشاركة الحقيقية. فكل لحظة نقضيها بعيدًا عن الآخرين، كل مراقبة بلا مشاركة، هي خيبة جديدة للروح، وكل خطوة نحو الفعل، كل عمل، كل كلمة صادقة، هي علاج لكل فراغ، وكل تصحر، وكل ميل للتلصص الذي يولد من ضعف النفس.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.