فؤادة وعتريس: حين يكون الخوف هو الطاغية
الاسم الشهير فؤادة، والكنية بهية، والتاريخ يسجّلها باسم إيزيس. ليست مجرد امرأة في فيلم، بل تجسيد لجوهر الأنثى المصرية، تلك التي لا تموت مهما تغيّر الزمن، لأنها ببساطة تمثّل الأرض ذاتها، والخصب، والذاكرة، والكرامة، والقدرة على البقاء بعد كل انكسار. في شيء من الخوف لم تكن شادية تمثّل، بل كانت تتماهى مع فكرة المرأة التي تحمل الوطن في عينيها. وجهها كان مزيجًا من الحنان والصلابة، من الضعف الإنساني والقوة الكامنة، كأنها تقول بصمتها إن الحب ليس ضعفًا، بل نوع من المقاومة. كانت فؤادة رمزًا للأنوثة حين تتجاوز حدود الجسد إلى فكرة أوسع: أن تكون أنثى يعني أن تملك القدرة على المواجهة دون أن تفقد نقاءك.
عبقرية الصُناع: منظومة الوعي المتكاملة
عبقرية شادية لم تكن وحدها، بل كانت نتاج منظومة من الإبداع الجماعي. صُنّاع العمل — المخرج حسين كمال، والكاتب ثروت أباظة، وكاتب الحوار والشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، والممثلون الكبار محمود مرسي، شادية، يحيى شاهين، محمد توفيق، وعبد الوارث عسر — شكّلوا معًا كتيبة وعي فنية نادرة. أدركوا أن الفن يمكن أن يكون أداة مقاومة حين يُقدَّم دون شعارات.
دور المخرج حسين كمال: لعب كمال دور العصب في هذا العمل، حيث نجح ببراعة في تأريض الرمزية الثقيلة للقصة الريفية، وجعلها قابلة للتصديق. لقد أدار إيقاع الفيلم ببراعة، فبنى "جو الخوف" تدريجياً عبر المشاهد الصامتة والنظرات الثابتة، مما جعل لحظة الرفض المدوي في النهاية ذات وقع عظيم ومحرر. كما تجلت عبقريته في إدارة أداء النجوم، خاصة محمود مرسي الذي جسّد الطاغية بـ الهدوء المخيف بدلاً من الصراخ، ليقدم لنا "الطغيان الهادئ" الذي يكمن خلفه الخوف والهشاشة.
لذلك جاءت رموز الفيلم هادئة لكنها جارحة، تُسقط الواقع على الخيال بذكاءٍ بالغ، وتزرع الوعي في وجدانٍ خائف دون أن تثير بطش الجلاد.
عتريس: الكارثة ليست فيه، بل في الخوف الذي صنعه
الشيخ إبراهيم، بصوته الهادئ وعبارته التي لا تُنسى، لم يكن مجرد شيخ قرية، بل كان تجسيدًا لضمير الجماعة حين يفيق من غيبوبته. كان يعرف أن المواجهة لا تحتاج صخبًا، بل كلمة حق واحدة تُقال في لحظة صدق. ولذلك كان صمته أحيانًا أبلغ من كل الكلام.
أما عتريس، فهو ليس مجرد طاغية من ورق، بل صورة الإنسان حين يسكنه الخوف فيتحوّل إلى جلاد. قوته الظاهرة ما هي إلا قناعٌ يخفي هشاشته. هو يخاف من الحب لأنه يراه تهديدًا، يخاف من النور لأنه يفضح ظلامه، يخاف من فؤادة لأنها تمثّل الحقيقة التي يحاول دفنها. وهنا تتجلّى الفكرة الفلسفية الكبرى في الفيلم: أن الكارثة لم تكن في عتريس، بل في الخوف الذي جعله ممكنًا. فالطغاة لا يولدون أقوياء، بل نصنعهم نحن حين نخاف.
"جواز عتريس من فؤادة باطل!": لحظة ميلاد الوعي
ثم يجيء الصوت الذي كسر الصمت، الصوت المؤمن بربه، الواثق بدينه وأهله، ليقول الجملة التي تجاوزت الشاشة إلى وجدان الأمة: "جواز عتريس من فؤادة باطل!" لم تكن مجرد عبارة رفض، بل لحظة ميلاد الوعي الجمعي، تلك اللحظة التي يتحوّل فيها الخضوع إلى مقاومة، والسكوت إلى نطق، والخوف إلى فعل خلاص.
ولم يكن للفيلم أن يبلغ هذه القامة الخالدة دون موسيقاه وأغانيه التي شكّلت وجدان المشاهد كما شكّلت دراما الأحداث. كلمات عبد الرحمن الأبنودي وألحان بليغ حمدي جاءتا كحوارٍ آخر موازٍ للصورة، يشرحن دون أن يشرحن، ويعبّران دون مباشرة. كانت الأغاني بمثابة ضميرٍ شعبيٍّ ثائر، يمتزج فيه الألم بالأمل، والخوف بالإصرار على الحياة. أداء شادية تحوّل إلى نشيدٍ خفيٍّ ضد القهر، لتصبح الموسيقى في الفيلم شاهدًا على الوجع الجمعي ومفتاحًا لفهمه.
الفيلم كوثيقة حية في سياقها التاريخي
بالإضافة لعمقه الفني، اكتسب الفيلم أهمية مضاعفة لأنه عُرض بعد نكسة 1967، ليصبح بياناً وطنياً يفسر الضعف الداخلي. أصبح عتريس رمزاً للاستبداد الذي يؤدي إلى الوهن، وأصبحت فؤادة رمزاً للصمود والأمل في استعادة الكرامة والرفض المدوي للواقع القهري.
الفيلم لم يكن درسًا في الدراما بقدر ما كان درسًا في الفلسفة الاجتماعية والسياسية: حين يطول الخوف، يتحوّل إلى ثقافة، وحين يُكسر، يتحرر الجميع. صُنّاع العمل قدّموا لنا مرآةً للزمن العربي كله، زمنٍ ما زال فيه العتاريس يتكاثرون، وما زالت الفؤادات تُحاكم لأنهن أحببن بصدق. ولذلك، فإن شيء من الخوف ليس فيلمًا من الماضي، بل وثيقة حيّة للحاضر، تذكّرنا دائمًا بأن الحرية تبدأ من كلمة، وبأن الصمت الطويل هو الوقود الحقيقي لكل استبداد.
رسالة إلى الوجدان
اترك الفيلم للحكاية، وركز في المعنى: كل عتريس في حياتنا لا ينتصر إلا حين نخاف، وكل فؤادة لا تُهزم إلا حين تصمت. وحين يفيق الوعي — ولو في لحظة — تسقط كل الجبروتات، ويعود الإنسان إلى إنسانيته.
لقد علّمونا أن التحرر لا يبدأ من الثورة على الآخر، بل من الثورة على الخوف داخلنا. ومن تلك اللحظة، نعرف أن جواز الخوف من الحقيقة… باطل.
— محسن عباس | تأملات في الوعي والرمز