الجزر المنعزلة: كوميديا التفكك الاجتماعى
في مجتمعنا اليوم، لم تعد الجغرافيا وحدها تقسم البشر، بل نشهد انفصالًا صارخًا في كل شيء تقريبًا: جزر اجتماعية ومعرفية ورمزية، كل واحدة تحيط نفسها بأسوار وهمية، وكل فرد فيها يظن أنه مركز الكون.
من بين هذه الجزر:
-
جزيرة الطبخ والمُدّعات: حيث يعتقد أهلها أن امتلاك أصناف غريبة من التوابل أو أدوات مطبخ باهظة الثمن يمنحهم سلطة على العالم. يتفاخرون بالوصفات ويضعون قواعد لا معنى لها، بينما المجتمع الأكبر ينهار حولهم. وكما ينعزل الطباخون في وصفاتهم، ينعزل سكان الكمبوندات في أسوارهم، ليصبح الانعزال أسلوب حياة متدرجًا.
-
جزيرة الكمبوندات: تمثل الانعزال المادي، حيث يسكن الناس في مناطق مسوّرة ومغلقة، يظنون أنهم محصنون ضد الفوضى، بينما في الواقع يزيدون الفجوة بين الأغنياء والفقراء ويهدمون أي شعور بالتواصل والتضامن.
-
جزر الفن والغناء والرياضة: كل واحدة ترفع شعارات الهوية والتميز، لكنها فقاعات فارغة، تدور حول نفسها، تتبادل النجوم والمؤثرات فقط لإيهام العالم بأنها مهمة، بينما هي مجرد ديكور يضيف الضوضاء دون أي قيمة حقيقية.
-
جزيرة النخبوية الأخلاقية: حيث يتفاخر أفرادها بصوابهم السياسي أو البيئي، محوّلين الخلافات إلى محاكمات أخلاقية وغالقين باب الحوار أمام أي طرف يُصنَّف فورًا كـ "عدو" غير منصف.
-
جزيرة العزلة الخوارزمية: يعيش الأفراد في فقاعات ترشيح مبرمجة عبر التقنيات، حيث يصعب رؤية وجهات النظر المختلفة، ويظن كل شخص أنه "مركز الكون" لأن كل ما يراه يؤكد معتقداته الخاصة.
-
العزلة الاقتصادية الضمنية: من جزيرة التسوق والعلامات التجارية، حيث يحدد الفرد هويته وقيمته من خلال المنتجات التي يقتنيها، إلى جزيرة العمل عن بُعد المفرط التي تخلق عزلة مهنية تمنع التفاعل العفوي في بيئة العمل.
القائد في كل جزيرة ليس إلا رمزًا وهميًا للهيمنة داخل حدود الفقاعة، مستفيدًا من الاتفاق غير المكتوب الذي يحمي الانعزال ويحوّل المجتمع إلى سلسلة فقاعات متصارعة ومتعجرفة. ففي جزيرة الطبخ، قد يكون المؤثر الرقمي الذي لا يطهو شيئًا حقيقيًا، وفي جزيرة الفن النجم العابر الذي يختفي مع انتهاء الضجة، أما في العزلة الخوارزمية فهو صوت خوارزمي غير مرئي يدير الاهتمامات بلا وجه حقيقي. القائد إذن ليس شخصًا، بل صنم اللحظة الذي يُقدس الانعزال.
هذه الجزر ليست ثابتة؛ إنها معسكرات مؤقتة تتصارع فيما بينها على الاعتراف والمركز، فنجد صراعًا بين طهاة التوابل النادرة وطهاة الأكل الصحي، وبين فناني "الرسالة" وفناني "الاستعراض"، مما يفاقم العبث ويؤكد أن الانعزال لا يجلب السلام حتى داخليًا.
أحيانًا تتخيل هذه الجزر أنها تتواصل: جزيرة الطبخ ترسل وصفة، جزيرة الفن تستضيف فنانًا، جزيرة الرياضة تعقد مباراة صغيرة. لكن هذه التبادلات مجرد رموز فارغة، لا تقوي المجتمع ولا تحل مشاكله، بل تضفي فقط وهم النشاط الاجتماعي.
النتيجة: مجتمع مشتت ومفتت، حيث تُهدر الطاقات في الحفاظ على حدود وهمية، ويعيش الجميع في أوهام القوة والسيادة داخل فقاعات فارغة. أهل الكمبوندات يظنون أنهم آمنون، الفنانون يظنون أنهم مؤثرون، والطباخون يظنون أنهم أصحاب سلطة، بينما الواقع يكشف تفكك النسيج الاجتماعي وهشاشة القوة الجماعية.
هذه الجزر ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل مرض ينهش المجتمع من الداخل. كل فقعة تحمي نفسها على حساب الآخرين، وكل فرد يظن أن عالمه الصغير هو الكل، وكل امتياز وهمي يضيف طبقة جديدة من الانعزال.
إذا أردنا مجتمعًا حقيقيًا، علينا كسر الأسوار، فتح الجزر المغلقة، وإعادة الحوار والتفاعل الحقيقي بين الجميع. القوة الحقيقية ليست في الانعزال، ولا في الامتيازات الوهمية، بل في القدرة على التعاون والحفاظ على النسيج الاجتماعي، وخلق مجتمع يستطيع أن يتحدى الأزمات معًا، لا منفردًا داخل فقاعاته المدمرة. وقد تكون الأزمات الشاملة الترياق الوحيد لإجبار الجميع على الاعتراف بالضعف المشترك وضرورة التعاون.
بقلم: محسن عباس