تيار بلا صراخ… هل بدأ الوعي الجديد فعلاً؟
--------------------------------------

أقولها لأول مرة، وأعتذر سلفًا إن ظنّ البعض أن في كلماتي بعض الغرور، وهو ليس كذلك أبدًا. ما أقوله ليس تفاخرًا، بل محاولة صادقة لأن أصف رحلة بدأت داخل عقلي وقلبي منذ فترة، حين أدركت أن الضجيج السياسي في بلادنا لم يترك مساحة واحدة للعقل أن يتنفس.
منذ شهور، وربما سنوات، وأنا أحاول تأسيس تيار سياسي عقلاني، تيار لا يُحسب على طرفٍ ضد آخر، ولا يرفع راية المؤيدين ولا المعارضين، بل يرفع راية الوعي والتفكير النقدي.
تيار همه الأساس ليس الدفاع عن أشخاص أو مهاجمة أنظمة، وإنما البحث عن المعلومة الموثقة، وتحليل الفكرة، وتأصيل الموقف بناءً على معرفة لا على انفعال، وعلى وعي لا على عاطفة.
بدأت التجربة من خلال بوستات صغيرة فيها أسئلة مستترة بين السطور. أحيانًا تبدو عادية، لكنها تحمل اختبارًا للعقل الجمعي: كيف نفكّر؟ من يُجيد قراءة الفكرة من خلف الجملة؟ من يسأل قبل أن يحكم؟
ثم بدأت الدخول في نقاشات مفتوحة مع المؤيدين والمعارضين، محاولًا أن أُظهر أن الخلاف لا يعني الكراهية، وأن النقد لا يعني العداء، وأن التفكير لا يُنقص من الوطنية شيئًا.
الفكرة ببساطة أن هناك مساحة وسطى ضاعت بين تطرفين:
الذين يصفقون بلا وعي، والذين يلعنون بلا فهم.
وكأننا لم نعد نعرف سوى الأبيض والأسود، بينما الحياة كلها درجات رمادية مليئة بالمعاني.
التيار الذي أحلم به لا يريد أن "يُرضي" أحدًا، ولا يبحث عن سلطة أو شعبية، بل عن توازن.
توازن بين الإيمان بالوطن وحق الاختلاف معه،
بين احترام الدولة ونقدها حين تخطئ،
بين الحفاظ على الثوابت والجرأة في طرح الأسئلة الصعبة.
أريد تيارًا يُفكّر قبل أن يهاجم، ويحلّل قبل أن يصرخ،
تيارًا يعرف أن “العقلانية” ليست ضعفًا، بل أعلى درجات القوة.
تيارًا يدرك أن التقدم لا يأتي من التمجيد الأعمى ولا من الرفض الأعمى،
بل من القدرة على أن تقول: “أنا أرى… لأني فكّرت، لا لأني تبعت.”
الغريب أنني بدأت ألاحظ تفاعلات مختلفة.
هناك من يناقش بهدوء ويطلب المصادر،
وهناك من يعترض بعنف لكنه على الأقل بدأ يفكّر،
وهناك من يكتشف أن موقفه ليس مقدسًا، وأن الحوار ليس تهديدًا بل إنقاذًا.
هل أنا متفائل أكثر مما يجب؟ ربما.
لكنني أؤمن أن الوعي لا يُولد فجأة، بل يتكوّن ببطء، عبر صراعات صغيرة داخل العقول، ومواقف متكررة تضعنا أمام أنفسنا.
والسؤال الذي يطاردني دائمًا:
هل فعلاً بدأت نواة هذا التيار تتشكّل؟
هل بدأنا نرى ملامح وعيٍ جديد يبحث عن توازن بين الانتماء والاختلاف؟
أم أنني فقط أحلم أحلام يقظة وسط ضجيجٍ ما زال يصرّ على ألا يسمع إلا نفسه؟
ربما تكون الإجابة في الغد.
لكن اليوم، يكفيني أن أرى شرارةً واحدة في العتمة…
شرارة تقول إن العقل لم يمت بعد. 


باحث في الفكر السياسي والاجتماعي