تشريح الجهل
بقلم: محسن عباس
مقدمة
في حيٍّ قديم، حيث تتقاطع الحياة مع الفقر والجهل، يُزرع الطفل في تربة لا تعرف الفرق بين الحب والهيمنة. هنا، يولد الإنسان مشوشًا، تحمل أرواحًا لم تتعلّم بعد معنى الحرية، وتكبر ليعيد رسم حدودها وفق الألم الذي عاشه.
هذه قصة عن عاصم، الذي أصبح نسخة من ذاته تحت وطأة جهل الآخرين، ودرس حيّ عن أثر التربية المعيبة على تكوين الإنسان.
الفصل الأول: البذرة
وُلِد عاصم في بيت فقير على أطراف المدينة، الذكر الوحيد بين أربع بنات. حضوره كان فرحًا مؤجّلًا، وسرعان ما تحوّل إلى عبء بعد موت الأب المبكر.
الأم تعمل في مصنع ملابس، تخرج صباحًا وتعود متعبة، تاركة ابنها بين أيدي أخواته الأربع.
تحوّل الطفل إلى دُمية للضحك. يلبسنه الفساتين والملابس الداخلية، ويضعن له الروج والكحل، ويصففن شعره، ثم يلتقطن له الصور. في البداية كان يضحك معهن، لكنه سرعان ما شعر بالالتباس بين الحب واللعب القسري.
كبر عاصم في جو اختلطت فيه الحدود بين الذكر والأنثى، بين الحياء والاستخفاف. كان يشاهد أخواته يقفن عاريات أو يبدّلن ملابسهن أمامه. هكذا ترسّخت بذور التشويش في وعيه، حين امتزجت المحبة بالإذلال، والرعاية بالتجربة.
الفصل الثاني: الشرخ الأول
في العاشرة، زار أخته الكبرى المتزوجة. وبينما كانت الأم في المطبخ، سمع صوت صراخ من غرفتها واندفع ليفتح الباب.
رآها في لحظة حميمية مع زوجها، فسأل ببراءة:
"هو بيضربك ليه؟"
ضحك الزوج وقال:
"لا يا حبيبي، ده هزار."
خرج عاصم من الغرفة حاملاً كلمة "هزار" كتعريف لكل ما هو غامض، وبدأت مرحلة الانكسار: فقد استُخدم جسده للمرة الأولى دون أن يعرف الرفض، أو معنى الحدود.
في المدرسة، سخر أحد التلاميذ منه عندما اكتشف أنه يرتدي "أندر نسائي" من خزانة أخته، واعتدى عليه. لم يقاوم. الخضوع أصبح طريقًا للحب والقبول.
منذ ذلك الحين، صار عاصم يرتدي الملابس الداخلية في الخفاء، كوسيلة لاستعادة جزء من ذاته، وعمّق ذلك الجرح التراكمي في وعيه النفسي.
الفصل الثالث: التكوين السري
كبر عاصم وهو يحمل خليطًا من الفضول والذنب، والرغبة في السيطرة على ما فقده.
عمل في ورشة كهرباء، صامتًا ومنغلقًا، يختزن كل ما شاهده أو عايشه. لم ينسَ أخواته، ولا زوج أخته، وكان يرى فيهم أصل التشويه الذي شكل هويته.
في داخله فكرة واحدة تنمو ببطء:
"إن لم أستطع أن أكون حرًا، فليكن الآخرون عبيدي."
الفصل الرابع: بيت الرفض وعقدة الكراهية
استقلّ عاصم ببيت صغير، وحوّله إلى ملاذه الخاص للعيش وفق هويته المشوَّهة.
كان يكره النساء بعمق، خصوصًا أخواته، اللاتي يرى فيهن سبب فقدانه لحياته الطبيعية. أصبح يقطع علاقته بهن تدريجيًا، ويراقب حياتهن العادية كأنها سجن، بينما هو يعيش حريته الداخلية.
زوج أخته لم يكن هدفًا للانتقام، بل للشفقة. أصبح عاصم يرى نفسه أفضل وأكثر صدقًا مع ذاته.
الفصل الخامس: تأكيد الذات والعبث
استمر عاصم سعيدًا بوجوده كـ "شاذ ومتحرر". لم يعد يهمه رأي الناس. شعوره بالحرية الداخلية أقوى من أي عار خارجي.
في ليلةٍ ما، زارته أخته الكبرى بعد غياب طويل، حاولت الحديث عن ابتعاده وخوف الأم المريضة.
نظر إليها ببرود، وقال بهدوء:
"اللانجري اللي كنتوا بتجربوه عليّ زمان، طلع دلوقتي هو مقاسي بالظبط. ممكن أسلفك منه لو عايزة؟ عندي أحلى بكتير."
ابتسم عاصم أمام المرآة، يضع الروج بإتقان هذه المرة، مُتأملاً في وجه الكيان الذي اختاره لنفسه. العار تحول إلى تأكيد وجود وفخر.
الخاتمة المفتوحة
في صباح اليوم التالي، خرج عاصم إلى الشارع لأول مرة منذ أسابيع.
جلس على مقهى صغير، طلب قهوته، وحدّق في المرآة المكسورة في الزاوية.
رأى وجهين — الطفل الذي مات، والكيان الذي وُلد للتو.
ابتسم في سرّه:
"هم زرعوا الجهل... وأنا حصدت نفسي."
نهض ومضى، تاركًا الآخرين يبحثون عن ظله، بينما صار هو هوية قائمة بذاتها، خارج أي قيود.


0 التعليقات