✦ وشم المظلومية

  وشم المظلومية

قصة قصيرة
 بقلم: محسن عباس

تمهيد الكاتب

في عمق كل امرأة قصة غير مكتوبة، تبدأ حين تصمت، لا حين تتكلم.

هذه الحكاية ليست عن الخيانة، بل عن الجفاف الطويل الذي يحوّل الجسد إلى سجن،
عن الرفض القديم الذي تكرر في قالب زواج، والروح إلى غريبٍ يسكنه غيرها.

كتبتها لا لأدين أحدًا، بل لأرى الإنسان في لحظته الأضعف،
حين يتقاطع الحنين مع الرغبة، والخيال مع الجريمة.

قد تبدو البطلة ضحية، وقد يراها البعض آثمة،
لكن الحقيقة — كما في كل قصص البشر —
لا تقيم في طرفٍ واحد، بل في المسافة بين البراءة والانكسار.
محسن عباس


✦ وشم المظلومية

لم يكن زواجي به يومًا قيدًا مقدّسًا، بل صفقة عمل فاشلة منذ بدايتها. أنا نورا، ابنة الريف المدلّلة، وحيدة بين خمسة أولاد، رأيت فيه مشروعي المستقبلي. كان ذلك بعد أن صُدِدتُ برفضٍ قاسٍ من رجل أحببته في مكتبي القديم، كأنني أبحث عن رجل يعيد إليّ الاعتبار لا الحب. ساعدته في بداياته، دعمته بمالي وكبريائي، وكنت أرى في بريق عينيه انعكاسًا لمستقبلي العظيم. لكن الصفقة انهارت بعد أسبوعٍ واحد. لم يمضِ كثير على ليالي الزفاف في بيتنا الريفي، حتى سمعته يتفق على لقاءٍ عابث مع إحداهن. شعرتُ يومها أن كل ما بنيتُه بيدي قد سُرق مني. ثم جاءت الكويتية؛ امرأة من وراء البحرين، كان يرسل إليها كلماتٍ لم يخصّني بها يومًا. أما أنا، فكنتُ الجدار البارد الذي يستند إليه ليفرغ ملله. كنتُ شيئًا ثانويًا في حياته، قطعة أثاث لا رغبة فيها ولا ظلّ.

كان زواجنا في الفراش يتم ببرودٍ تام. كان يطلب مني أن أدنو منه، ثم ينام على ظهره، يجعلني أتخذ وضعية الواجب، بينما أشعر أنا بالإهانة والعزلة. تائهاً في ضخامته، في تلك اللحظات، لم يكن يداعبني؛ بل كان واجبي أن أبادره أنا، أن أستحثه وأداعب جسده حتى يُثار، كأنني الخادم الذي عليه تجهيز سيده. كانت العلاقة تنتهي بإنهاء واجبه هو فقط. كنت أعود إلى الفراش مُهانة، لا شعور لي بالانتهاء أو الإشباع. لقد صممت في داخلي أن أحرمه من أي وميض شغف حقيقي؛ حتى لو سنحت الفرصة، كان لسان حالي يقول: "لا يستحق." وفي إحدى المرات، حين حاولتُ أن أُتمّم ما لم يكتمل لي، انتبه لما أفعل، فشَتَمني ونهَرني بأبشع الألفاظ، وذكرني بـ "قذارتي". بعدها، صار مصيري بعد كل لقاءٍ بارد معه هو الهروب إلى الحمّام لأبكي، وأُتمّم ما عجز عنه، لأُشبع رغبة كانت تُحرّقني وتُشعرني بالعار في كل مرة. وهكذا انطبع أول وشمٍ للمظلومية في داخلي.

ثم بدأ صعوده المهني، وبدأتُ أنا انهياري الصامت. المال الذي كنت أراه حقّي صار يتبخّر في يدٍ مبذّرة تُنفق على إخوته وأصدقائه أكثر مما تُنفق على أبنائها. مائةٌ وعشرون علبة زبادي في يومٍ واحد لأقاربه، بينما كنتُ أعدّ الجنيهات لحاجات بيتي. وفي قلب قريتنا، شيّد "بيته الأبيض" — فيلا فخمة، بسورٍ شاهق وواجهةٍ تلمع. كنت أراه يتباهى بها وأقول في سرّي:«هذا مالنا، ولن أتركه يضيع.» في هذه القرية، حيث الجدران لها آذان والجيران قضاة، كان هذا البيت يوحي بالنزاهة، لكنه كان قناعًا يخفي عفونة العلاقات.

وفي إحدى العزومات الفخمة التي أقامها زوجي، كان هناك صديقه القديم الذي كان يعرف كيف يغازل الانهيار في عيون النساء. حين مدّ يده ليأخذ مني طبقًا، لمس كفي لمسةً مطولة تجاوزت الصدفة، ورد فعلي السريع والمضطرب في سحبه لم يفُته، فقرأتُ في عينيه بريقًا صامتًا يخبرني أنه عرف سري؛ عرف أنني امرأة ليست عادية، وأن في داخلي بركانًا ينتظر الانفجار. ومنذ تلك اللحظة، شعرت بأنه يترقبني.

وسرعان ما أدركتُ أن هذا القناع هو ما أحتاجه لأكمل لعبتي.

بدأ انتقامي في البيت.

دلّلتُ أخاه الأصغر، قرّبته مني، زرعتُ بينهما الغيرة والشك. بل وأدخلت الشك عميقاً في قلب زوجي تجاه زوجة أخيه، ثم زرعتُ الشك في قلب أخيه الأصغر تجاه زوجته. أوهمته بوشوشات عابرة أنها ربما تميل لأخيها الأكبر (زوجي)، حتى صار كلٌّ منهما ينظر إلى الآخر كعدوٍّ محتمل.

كنت أبرّر ذلك بأنه دفاعٌ عن النفس، لا إجراماً.

ثم وجدت الإنترنت؛ نافذتي الجديدة على العالم، وبابي الملكي نحو الحرية. الإنترنت لم يخلق الجريمة داخلي، لكنه أظهرها كفرصة للتميّز السري بعيدًا عن أحكام القرية. أنا التي أهملتُ نفسي وشكلي، كنت أخفي خلف جسدي المكبوت احتياجًا جنسيًا غير طبيعي. كنت أبحث عن دفءٍ لم أجده في الواقع، عن نظرةٍ تشتهي أنوثتي المنسية. أو ربما كنت أبحث عن طريقة لأثبت بها لنفسي أنني لست كأي امرأة أخرى؛ أنني متميزة حتى في رغباتي المكبوتة.

انزلقتُ أعمق. لقد كنت أنا الصياد، لا الفريسة. أصبحتُ أخلع ملابسي قطعةً قطعةً أمام الكاميرا، أطلب من الغريب أن يتصرّف كزوج، أن يشتمني، أن يلعنني. كانت الشتائم وقودًا لرغبتي، وعقابًا روحياً في الوقت نفسه.لقد كان يعرف تمامًا كيف يوقظ الوحش بداخلي، كان رجلاً خبيرًا بدواخل النساء، ليس كزوجي الغافل. كنتُ أتعمّد التمنّع في البداية، أجعله يتوسل ويدفع الحدود، لأوحي إليه أنه صياد ماهر لا يُقاوَم، بينما كانت الحقيقة أنني أنا المتحكم، أُطلق له الحبل لأضمن سيطرتي التامة.

كانت الذروة في ليلةٍ مظلمة. ليلة موعودة بيني وبين زوجي. ارتديتُ ما يشبه طقم النار: سنتيان وأندر من الدانتيل الأحمر، جرأة لم يعرفها جسدي من قبل. جلستُ في الظلام، وبصوتٍ خافت، هاتفتُ الغريب. وصفتُ له التفاصيل، وطلبتُ أن "يفعل بي ما يشاء" في هذه اللحظة بالذات. كان جسدي مستعدًا لزوجي، لكن روحي كانت مُلكًا له. وبالفعل، أذعنتُ لطلباته عبر الهاتف، قاصدةً ذروة سريعة وعارمة أنهي بها الليل قبل أن يبدأ واجب الزوج البارد. شعرتُ بالنشوة تضربني بعنف.

وفي ليلةٍ أخرى، بعد ذروةٍ وانهيار، همستُ في نشوةٍ غريبة: "هذه أحلى ليلةٍ عشتها في حياتي... أحلى من ليلة دخلتي." لكن في اليوم التالي قال لي الغريب: "من قال إنكِ مظلومة يا نورا؟ أنتِ مجرمة." اعترفتُ بصوتٍ خافت: "نعم... أنا أنتقم." استمرت العلاقة بعض الوقت، حتى أيقظني ابني ذات مساءٍ وأنا أكلّمه عبر الشاشة. لسعتني الخطيئة كشرارة كهرباء. قطعتُ الاتصال، وأعلنتُ التوبة. لكنها لم تكن توبةً عن الكراهية، بل عن الوسائل فقط.

بعد أيام، حدّثني زوجي عن صفقةٍ مالية ضخمة. وحين غفا، لقد دفعني تبديده المتهور للمال على الآخرين إلى فعل ما فعلت، فأنا أحق بحماية عائلتي منه. فتحت مكتبه بمفتاحٍ سرّي، وزوّرت توقيعه على أوراق مالية، حوّلت مبلغًا كبيرًا إلى حسابٍ باسم أولادي. لم أكن أراها سرقة، بل حمايةً للميراث. لكن ما لم أتوقعه حدث سريعًا. بينما أتابع الأخبار، سمعت المذيع يعلن: «تجميد أصول رجل الأعمال الشاب… بتهمة فسادٍ وتزوير.» صُعقت.

وقبل أن أستوعب، رنّ الهاتف. كان "الغريب". قال بصوتٍ بارد: "أحسنتِ يا نورا، وشكرًا على المعلومات. لقد ساعدتِني في الإطاحة به." ضحك وأضاف: "أنا لست غريبًا يا نورا. أنا صديقه القديم الذي كنتِ تلتقينه في العزومات. كنت شريكه سابقًا، وكنت أعرف نقاط ضعفكما جميعًا. كنتِ أداتي المثالية. والآن ستحصلين على الفيلا والمال... لكن هناك ثمن صغير." ثم همس: "أريدكِ كما كنتِ أمام الكاميرا، جسدًا وشغفًا. وإن رفضتِ، صورتكِ عارية ودليل تزويركِ لتوقيعه سيكونان أول خبرٍ في قريتكِ الصغيرة."

سقط الهاتف من يدي. الفيلا صارت لي ولأولادي، لكنني في كل ليلةٍ أستلقي على سريري الجديد وأشعر أنني أملك جسدي لاثنين: الأول أهملني حتى متُّ، والثاني امتلكني حتى صرتُ عبدته. وفي كل صباح، حين أقف أمام النافذة الزجاجية التي تطل على القرية، أنظر إلى الواجهة الشفافة التي وعدتني بالنزاهة والتميز، أرى انعكاسي مشوّهًا، أحملق في عيني وأسأل نفسي: هل أنا الآن أجمل... أم أقبح مما كنتُ حين عشنا في بيتنا القديم؟ أنا مجرمةٌ ظنّت أنها تنتقم لمظلوميتها، فإذا بها تتحوّل إلى عبدةٍ لجريمتها. وشمُ المظلومية لا يُمحى، لأنه يُحفر بالدم والعار.

محسن عباس كاتب مصري يهتم بالتحليل النفسي والاجتماعي في القصة المعاصرة، ويزاوج في أعماله بين الواقعية السود

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.