✦ جدار الطفولة (اعتراف على أريكة التحليل)
قصة قصيرة
بقلم: محسن عباس
مقدمة الكاتب
ليست كل الجدران تُبنى من حجر أو طين، بعضها يُقام في روح الطفلة خوفًا، ثم يُشيد بالصمت لسنوات طويلة.
هذا جدار "ناهد"؛ جدار بناه الأقربون من الصفقات القسرية، وفساد المال، واغتيال البراءة في وضح النهار.
هذه القصة لا تروي نجاة امرأة من أزمة عابرة، بل تروي ولادة روح جديدة من رماد استغلال أسري منهك.
هي شهادة على أن أعظم الخيانات قد تأتي مُغلّفة بالدم، وأن الانفصال النفسي قد يكون الملاذ الأخير للبقاء على قيد الحياة.
واليوم، على أريكة التحليل، يتحطم هذا الجدار أخيرًا، لتعترف ناهد ليس عمّا فُعل بها، بل عن من قررت أن تكون.
المشهد التحضيري قبل الجلسة
في صباح ضبابي، كانت ناهد تجلس على كرسي غرفتها الخشبي القديم، تحدق في جدار فارغ تغطيه رطوبة الأيام.
قلبها مثقل، والفكر يئن من سنوات الألم التي صارت ثقلاً في الصدر.
دخل عليها صديق قديم، يعرف تاريخها كله منذ سنوات الصبا، ولكنه لا يحكم عليها أبدًا. جلس بجانبها بهدوء، وقال بصوت خفيض لكنه يحمل قوة اليقين:
"ناهد… أنتِ لا تستطيعين الاستمرار هكذا. كل هذا القهر والظلام الذي تحاولين دفنه في صدرك… سيهدمك إذا لم تتحدثي مع شخص يفهمك حقًا. يجب أن ترى شخصًا يفهم ما وراء الجدار، قبل أن يُحطمك هذا كله."
لم تقل شيئًا، لكنها شعرت وكأن يديها اللتين قبضت عليهما طوال سنوات القهر ارتختا فجأة. شعرت بيدين خفيتين تقودها بلطف نحو شيء لم تستطع مواجهته وحدها.
تلك الكلمات كانت الشرارة الأولى، الضوء الخافت الذي رسم الطريق إلى المحلل النفسي.
مقدمة المحلل
هذه ليست مجرد حكاية، بل جدار بُني من الخوف، ثم تحطّم ليكشف عن روح وُلدت من جديد.
هذه كلمات ناهد لي.
اعتراف ناهد
يا سيدي المحلل، أنا لستُ امرأة نجت من أزمة، بل نجوتُ من عائلة. نجوتُ من حياتي كلها. اسمي ناهد، ولكنني لم أملك اسمي أبدًا.
لقد بنيتُ جدارًا حول قلبي، يا سيدي المحلل. لم يكن للحماية، بل كان للسجن. سجن لمن كنتُها... حتى لا تراها العائلة وهي تنهار.
كنت أعيش خلف هذا الجدار، أصمّ الآذان عن صوت ناهد الحقيقية. لم يكن جدارًا، بل كان آخر ما تبقى من فطرتي... آخر حبل بيني وبين ما يجب أن تكون عليه الحياة.
البداية
بدأت حياتي وأنا طفلة، كان عمري خمسة عشر عامًا. كنت أجلس في فصلي، أعيش براءة القصص والأحلام، حتى دخلوا الفصل وطلبوا استدعائي.
ارتجفت، ماذا فعلت؟ وجدت أخي في غرفة المديرة. قال لي:
«أمك عاوزاكي، فرح.»
ذهبت معهم لأرى بيتنا مُزيّنًا، وحين وصلتني كلمات أمي، سقطت:
«مبروك يا بتي، كتب كتابك النهارده... على الأسطى سعد.»
صرخت: «فرح إيه وجواز إيه؟!» لكن لم أجد إلا رداً قاسياً:
«أنا عارفة مصلحتك أكتر منك. يلا، خذوها حموها عشان ليلة دخلتها.»
تم الزواج قسراً. في تلك اللحظة، لم تعد ناهد في الغرفة، روحها انسحبت نحو سقف البيت، تراقب جسد الطفلة وهو يُساق.
الصدمة الأولى
بعد فترة، ذهبت إلى السوق، وعند عودتي دخلت بيتي لأرى أمي تخرج من غرفة النوم بتوتر، ورأيت سعد زوجي يهندم ملابسه، ووجدت الفوطة الملقاة على الأرض عليها آثار.
كنت طفلة لا أفهم، لكن الحدس يصرخ: خيانة ثلاثية.
لم يكن صدمة خيانة، بل كان تأكيدًا لللاجدوى. لم يكن هناك شيء مقدس لتُهتك حرمته. شعرت بالغثيان، ليس من القذارة، بل من فكرة أنني مجرد شيء، أداة للمحرمات، قطعة أثاث يمكن تقاسمها بين الأم والزوج.
ركضت إلى بيت أبي، وبكيت بانهيار. سألوني عن السبب، فقلت: «الجو حر جدًا!» وربّت أبي الطيب على كتفي وقال: «ربنا يهون علينا كلنا.» لم يعلم أن حرارتي من العار، لا من الصيف.
سنوات الخمس
ظللت خمس سنوات أنجب فيها خمسة أولاد. الخمس سنوات لم تكن زمنًا، بل كانت ثقبًا أسود في حياتي.
كنت أضع طفلاً في السرير، لكن لم أرى فيه سوى امتدادٍ للإرغام. أحبهم، نعم، لكن هذا الحب كان يولد في أرض محروقة.
كان سعد يأخذني قسراً ويقوم دون أن ينظر إليّ. كنتُ فرحة بغيابه الدائم بعد الحادثة.
ثم اكتشفت أن أمي كانت غارقة في الديون بسبب فساد مالي كبير، وأن زواجي من سعد كان مجرد صفقة للتغطية على هذا الفساد المالي بماله. لم أكن زوجة، كنت غطاءً لديون عائلة.
مواجهة الفساد الأسري
بعد وفاة زوجي، أصبحت أماً لخمسة أيتام، فوجدت نفسي في مواجهة مباشرة مع أسرتي:
-
أختي الأولى تمارس الفاحشة عبر الإنترنت.
-
زوج أختي الثانية رفض مساعدتي.
-
أختي الثالثة كان لديها عقد عرفي باسمي.
-
أخي الشاب لم يسلم من الفساد.
حاولت تقليدهنّ لكسب المال والأمان، لكنني فشلت. لم أستطع إطلاقاً رؤية نفسي كامرأة تصلح لهذا الانحدار.
في تلك اللحظة، نظرت إليهن. الجدار الذي بنيته من سنوات القهر أصدر صوتًا صلبًا:
«ما ينفعش أكون زيكم.»
كان هذا الصوت أول صدع في الجدار؛ بداية تحطمه. لأول مرة، لم يعد يحميهن مني، بل حمى نفسي.
اللقاء مع المحلل
ثم أتيت إليك. شعرت وكأن الأريكة ليست مجرد مقعد، بل ساحة اعتراف مقدسة، حيث لا يمكن للجدار أن يصمد أمام هذا القماش القديم الذي ابتلع صراخ الكثيرين قبلي.
لم يكن لقاؤنا صدفة. هذه أول مرة أحس أنني إنسانة، أملك قلبًا وأحب.
"أنت يا سيدي، لستَ حبيبي، بل أنت الحرية التي لم أذقها. أول مرة تحدثت معي، وغازلت جسدي بهدوء واهتمام، قلت لك بصدق: هذه أول مرة أعرف أنني امرأة."
تعليق المحلل النفسي
ما حدث لـناهد هو اغتيال منظم للبراءة والهوية، ليس من قبل شخص غريب، بل من جدار الأسرة نفسه.
لكن ناهد لم تنهار. كل صدمة لم تقتلها، بل بنت فيها جدارًا صامدًا.
نجاة ناهد هي دليل على أن الإنسان يملك دائمًا قوة خلق قانون أخلاقي خاص به، حتى عندما ينهار القانون الأسري والمجتمعي.
ناهد لم تحطم الجدار لتعود إلى عالمها، بل حطمته لتبني عالمًا جديدًا.
إحساسها بالحب الصادق ليس عشقًا عابرًا، بل أول إعلان انتصار لحريتها العاطفية؛ إعلان أن قلبها ما زال حيًا وقادراً على الاختيار بعد أن سُلبت منها كل الخيارات.
ناهد ليست ضحية بعد الآن. ناهد رمز للمرأة التي وُلدت من رماد الإرغام، وقررت أن تكون حرة بشروطها هي.


0 التعليقات