الكتابة الحقيقية والقراءة المبدعة: بين العمق والتسطيح

 

الكتابة الحقيقية والقراءة المبدعة: بين العمق والتسطيح

=====================


في زمن الكيبورد والكتابة السريعة، يتصور الكثيرون أن مجرد رص الحروف يمنحهم لقب العقاد أو طه حسين. لكن الحقيقة أعقد من ذلك بمراحل. الكتابة المفكرة ليست مجرد ترتيب كلمات على صفحة، بل عملية شاقة تتطلب فكرة واضحة، وعقلاً قادرًا على التفكير والتحليل، ورؤية متعمقة للأحداث. بدون هذه العناصر، يصبح النص مجرد سردٍ عشوائي، حروف تتجاور بلا معنى، وكلمات تتبدد بلا أثر على القارئ.

الكتابة الحقيقية تبدأ بفكرة، أي ما يريد الكاتب أن يصل به إلى القارئ. هذه الفكرة لا تظهر من فراغ؛ بل تتطلب عقلاً مفكراً قادراً على رؤية العالم بطريقة مختلفة، وتحليل الأحداث وربطها بطريقة تكشف عمق المعاني. كل نص مبدع يحمل خلفه رؤية، أفكارًا، ومساحات مسكوت عنها لا يمكن للقارئ السطحي أن يدركها. فهي لا تظهر إلا للقراءة الحقيقية المبدعة، التي تسبر أغوار النص، وتلتقط ما بين السطور، وتغوص في ما لم يقله الكاتب صراحة، لكنها موجودة ضمنية في اختيار الكلمات وبناء الأحداث.

العمق كـ "حرفنة القيد" وشرط للإبداع

الكتابة العميقة هي نتاج صراع مع القيود، وليست ثمرة للحرية المطلقة. فالكاتب العظيم هو من يختار القيد الأصعب ليولد منه معنى جديداً؛ سواء كان ذلك قيد اللغة الذي يفرض الدقة والإيجاز على حساب السهولة، أو قيد الشكل الذي يحكم الهندسة المعمارية للنص لمنعه من التفكك والفوضى. التسطيح هو الانزلاق نحو السهولة اللغوية وغياب البناء المنطقي. الأعمق من ذلك، أن الصدق الداخلي هو قيد أخلاقي يمنع الكاتب من إنتاج ما يزيف تجربته الروحية والفكرية. الإبداع إذًا هو احترافية التعامل مع ما يجب أن يبقى مقيدًا.

للأسف، كثير من القراء اليوم يمررون النصوص مرور الكرام، ويركزون على السطح فقط. أسباب هذا السطحية متعددة: الجهل الثقافي، كسل العقل، غياب ملكة التفكير، أو حتى الغرور الزائف بأن القارئ يعرف كل شيء. هذا النوع من القراءة يجعل المعاناة الإنسانية التي ينقلها الكاتب تبدو نكتة سخيفة، ويحرم النص من أثره الحقيقي على الفكر والوجدان. هذا القارئ يمارس "عبادة وهم السهولة"، معتقدًا أن الأفكار العظيمة يمكن أن تُختزل في اقتباس مريح.

الخطر الأكبر: التسطيح كـ "تسليع"

الأخطر من ذلك هو التسطيح من أهل العمق أنفسهم. حين يقرر صاحب الرؤية، الكاتب أو المفكر العميق، أن يرضى بالإنتاج السطحي أو يساير الذوق العام السهل، يكون العمق قد انتهى. إن هذا التنازل غالباً ما يكون نتيجة ضغط السوق وخضوعاً لآليات التسليع والانتشار السريع التي تكافئ النص المريح على حساب النص الحقيقي. كل تجارب الفكر، كل رؤى الحياة، كل المعاناة الإنسانية التي نقلها في ذهنه وروحه، تضيع بلا أثر، ويصبح النص مجرد حروف تتجاور بلا معنى، وكأن العمق لم يكن موجوداً قط. هذا التسطيح لا يضر القارئ السطحي فقط، بل يفسد أيضاً سمعة الإبداع نفسه ويضعف ثقة المجتمع بالفكر الراقي. مقاومة هذا التسطيح هي اليوم مقاومة فكرية وأخلاقية ضد اغتيال قيمة العمل الجاد.

الكتابة الإبداعية لا تكتفي بسرد الأحداث، بل تنقل القيم، وتطرح أسئلة، وتكشف أبعادًا جديدة للحياة. الكاتب المبدع يختار كل كلمة بعناية، ويصنع توازنًا بين الظاهر والباطن، بين المعنى الصريح والمعنى المستتر. القراءة السطحية تفقد النص هذه القوة، بينما القراءة المبدعة تجعل القارئ يختبر النص كرحلة، يفهم ما وراء الكلمات، ويستشعر المسكوت عنه، ليصل إلى ما صبو إليه الكاتب فعليًا.

علاوة على ذلك، الكتابة الحقيقية تتطلب صدقًا داخليًا من الكاتب نفسه. لا يمكن لأي نص أن يكون مبدعًا إذا كان كاذبًا في جوهره، أو مجرد تقليد لنصوص أخرى. الكاتب المبدع يضع فكره وروحه في النص، ويجعل القارئ يعيش التجربة معه، يشعر بالأسى أو الفرح، بالغضب أو التساؤل، ويدخل في عالم النص بكل كيانه.

القراءة المبدعة، من جانبها، هي التي تمنح النص قيمته الكاملة. هي التي تحول النص من مجرد حروف إلى تجربة، ومن سرد أحداث إلى رؤية، ومن كلمات إلى وعي. والقارئ المبدع هو من يحمل في ذهنه سياقات تاريخية وفلسفية تمكنه من ربط النص الحالي بتراث الفكر العظيم، فلا يكتفي بما يقوله النص، بل يسبر أغواره، يلتقط الإشارات الدقيقة، ويقرأ ما لم يُقال، ليصل إلى الجوهر الحقيقي للفكرة. قارئ كهذا، تنتهي قراءته بأسئلة وبداية تفكير، لا بإجابات قطعية وراحة زائفة.

في النهاية، الفرق بين الكاتب الكبير والقارئ السطحي واضح جدًا: الكاتب المبدع يصنع النص بفكرة ورؤية، والقارئ المبدع يلتقط المعنى الحقيقي ويجعل النص حيًا في ذهنه وروحه. من لم يتعلم القراءة الحقيقية، لن يفهم عمق النص، وسيظل يرى الكلمات مجرد حروف، ويخسر التجربة الإنسانية الحقيقية التي يمنحها النص. الكتابة والقراءة وجهان لعملة واحدة. كل نص يختبر علاقة القارئ بالمعنى، كل فكرة تضع القارئ أمام قدرته على التفكير، وكل حرف يفتح بابًا للغوص في عمق الوعي. لذلك، الإبداع لا يكتمل إلا بتوافر فكرة، عقل مفكر، رؤية متعمقة، وقراءة مبدعة. التسطيح حتى من أهل العمق نفسه يقتل النص والمجتمع معاً، بينما الصدق والعمق في الكتابة والقراءة ينهضان بالإنسان والفكر.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.