«ماجبش سيرتي»: تشريح الكبرياء

 


🎭 «ماجبش سيرتي»: تشريح الكبرياء.. كيف يتحول الصمت إلى أغنية وجودية؟
✍️ بقلم: محسن عباس



في أغنية «ماجبش سيرتي» يكتب بهاء الدين محمد واحدًا من أكثر النصوص نضجًا وصدقًا في مسيرة الأغنية المصرية الحديثة. أغنيةٌ لا تتغزل في الحب بقدر ما تُشَرِّح لحظة الغياب الإجباري، حين يبتعد العاشقان لأسباب تافهة، ويُخفي كلٌّ منهما شوقه خلف كبرياءٍ هشّ، منتظرًا أن يبدأ الآخر الخطوة الأولى.
يعتمد النص على لعبةٍ دقيقة بين الرغبة في العودة والعجز عن المبادرة، مما يُبقي العلاقة في زمنٍ نفسيٍّ معلّق بين الفراق المؤقت والعودة المحتملة.

يبدأ النص بسؤالٍ بسيط في ظاهره:

«هو إحنا بينا إيه؟ كل اللي بينا فراق!»

لكنه سؤالٌ وجودي في جوهره، يختصر رحلة علاقةٍ أنهكها الصمت وسوء الفهم.
ثم يفتح الشاعر نافذة الأمل في بيتٍ من أنقى ما كُتب في الغناء العاطفي الحديث:

«ممكن في يوم في يومين، ممكن بنظرة عين نرجع سوا حبيبين، محصلش بينهم حاجة.»

يا لها من صياغةٍ تذيب الجليد، وتستحضر لحظة الصفاء القصوى التي تسبق العناق بعد طول انتظار.
كلمة «ممكن» وحدها تحمل موسوعة من التردد والرجاء، وتحوّل النص إلى حوارٍ بين القلب والعقل.

عبقرية النص: العاطفة بوصفها دراما إنسانية

عبقرية بهاء الدين محمد هنا ليست في العاطفة فحسب، بل في قدرته على تحويل التجربة اليومية البسيطة إلى دراما إنسانية تُشبهنا جميعًا.
إنه يكتب بلغة الشارع المصري ولكن بعمق الفلاسفة، حيث تتقاطع الرهافة مع الحكمة، والعادية مع الوجودي.


اللغة الموسيقية: الهمس والأنين المكتوم

يأتي رياض الهمشري ليقدّم لحنًا هو الآخر قصة حبٍ موازية.
مزج بين دفء المقامات الشرقية ورهافة الجملة الغربية ليصنع مساحةً صوتية تُحاكي التردد بين الأمل والندم، بين الشوق والكبرياء.
يبدأ اللحن هامسًا كخاطرٍ خجول، ثم يتصاعد تدريجيًا حتى يبلغ ذروة الوجع والاشتياق، فيتماهى مع المعنى الإنساني للنص دون أن يطغى عليه.

في التوزيع الموسيقي، تلعب الآلات الوترية (الكمنجات) دوراً حاسمًا؛ فهي لا تكتفي بالمرافقة، بل تُصدر "أنينًا مكتومًا" في المقاطع الهادئة، يجسّد الشعور باللوعة الداخلية.
كما أن الإيقاع الهادئ والمتأني يمنح الأغنية ثِقلاً، ويخدم فكرة التردد، ويسمح للمستمع بعيش تلك اللحظة المعلّقة بين الفقد والعودة.


أنغام.. صوت التعبير بالصمت

أما أنغام، فهي هنا ليست مؤديةً للأغنية، بل بطلتها الحقيقية.
تُغنّي وكأنها تروي اعترافًا مؤجّلًا؛ تُمسك النغمة كما تُمسك عاشقةٌ دمعتها، وتُطلقها فقط حين يشتد الحنين.
صوتها يتنفس صدقًا، ويحتضن الجملة اللحنية كما لو كانت تُولد في لحظتها الأولى.

لم تكتفِ أنغام بالأداء، بل منحت النص روحًا ثالثة.
جزء من عبقريتها أنها تُعبّر بالصمت في الفواصل بين الجمل؛ فالصمت عندها ليس فراغًا، بل مساحةٌ تمتلئ بالعتاب والحنين غير المنطوق.
حتى نطقها المتأنّي لكلمة «ممكن» يرفعها من مجرد أداة لغوية إلى نغمة شعورية تُفيض بالتردد والرجاء.


الأثر: مرآة لجيلٍ يخاف الفقد

من حيث الأثر النفسي والثقافي، شكّلت «ماجبش سيرتي» علامةً فارقة في وجدان جيل التسعينات وبداية الألفية الجديدة، جيلٍ كان يختبر الحب لأول مرة وسط تحولاتٍ اجتماعية متسارعة.
جسّدت الأغنية مشاعر التردد والخوف من الفقد التي سكنت تلك المرحلة، وجعلت المستمعين يرون فيها مرآةً لحكاياتهم الخاصة.
لم تكن مجرد أغنيةٍ تُسمع، بل طقسًا شعوريًا يعيد تشكيل الإحساس بالحب والفقد، وكأنها الصوت الخفي لما لم يستطيعوا قوله.


الختام: الحب حين يعجز عن الاعتذار

«ماجبش سيرتي» ليست أغنيةً عن الفراق فقط، بل عن الإنسان حين يعجز عن الاعتذار، وحين يكتشف أن الحب لا يموت بالفراق، بل يختبئ في التفاصيل الصغيرة — في نظرة عين، أو كلمة «ممكن» تقول كل ما عجز اللسان عن قوله.

إنها عملٌ فنيٌّ مكتمل العناصر، يبرهن أن الأغنية المصرية لا تزال قادرة على الجمع بين الصدق والعمق والجمال، حين يلتقي شاعرٌ صادق، وملحنٌ مبدع، وصوتٌ يغني من الروح.

"بعض الأغاني لا تُسمع، بل تُسكَن — لأنها تشبه ما لم نستطع قوله."

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.