قيود لا تُرى

 

📷 قيود لا تُرى

📷 بقلم: محسن عباس



تقديم

في زمنٍ صارت فيه الحرية تُقاس بما يُدفَع في سبيلها، تحكي هذه القصة عن امرأةٍ بدأت متمرّدةً وانتهت متحكّمة، عن الخط الرفيع بين الانعتاق والسيطرة، وعن الثمن الذي يدفعه الإنسان حين يوقّع عقده مع العالم... بإرادته. ليست حكاية فسادٍ فقط، بل مرآة لصفقةٍ خفيّة يعقدها كثيرون مع أنفسهم باسم الطموح.

الفصل الأول: ولادة القيد الأول

لم تكن هناء تحلم بالترف، بل بالاختيار. أمها، سناء، كانت تردد: "اسمك هناء، ووظيفتك أن تكوني مصدر الأمان." الأب، حسين، كان يرى النجاح في الأرقام وحدها. كبرت هناء وهي تردّد في سرّها: "لن أعيش تحت أحد." في الجامعة، كانت الأجرأ في النقاش، والأكثر حرصًا على أن تبدو قوية ليس فى منطقها فقط بل مظاهرها. كانت تظن أن الحرية تُنتزع بالصوت العالي. لم تكن هناء تخشى أن تلبس فساتينها القصيرة والضيقة ذات الفتحات العميقة التي تجعلها محط الأنظار والجدل في أي مكان. كانت تتعمَّد إظهار مفاتنها بجرأة تُثير الحديث والهمس حولها، حتى إن جلست لم تكن تكترث لنظرات المتربصين. كانت ترى في مظهرها الصادم إعلانًا لاستقلالها، لكن المجتمع كان يرى في هذا التمرد فرصةً يترجمها بعضهم إلى "دعوة مبطنة للتجاوز وفعل الحرام".

الفصل الثاني: الخطوة الأولى في عالم «ألسهم الفضى»

بعد التخرج، رفضت هناء عرض أبيها. تزوجت من رأفت، شابٍّ طموحٍ رأى فيها واجهة اجتماعية. التحقت بشركة «ألسهم الفضى » للاستشارات والنفوذ. سرعان ما اكتشفت أن رأفت يقضي الليالي بعيدًا، يخطط لصفقاته الخاصة. الفراغ العاطفي تمدّد بصمت في شقتها الأنيقة. و احسست بالاهانة الانثوية. في «ألسهم الفضى»، كان المدير مراد النبوي هو سيد اللعبة. رجل نفوذٍ يعرف أين توضع الكلمة. لاحظ حضور هناء، واقترب منها ببطءٍ محسوب. لم تكن كلماته ودًّا صريحًا. بل كان فج وصريح بلا مواربة. التقطت الخيط منه حتى تنتقم لنفسها كانثى وايضا ليغيّر موقعها داخل الشركة. منذ ذلك اليوم، بدأت صعودها الحقيقي. صارت الذراع الأيمن لمراد، وتعلمت أن النفوذ لا يُنتزع فقط، بل يُمنَح لمن يجيد الصمت. وتقديم ما يملكه بطريقة مناسبة.

الفصل الثالث: الانعكاس

مع مرور الوقت، تغيّر كل شيء. هناء التي كانت تُحارب من أجل الحرية، أصبحت جزءًا من آلة تُدار بالصمت. ثم جاء اليوم الذي علم فيه رأفت بكل شيء. لم يغضب. جلس أمامها، يسكب قهوته بهدوء، وقال بنبرة باردة: "مراد شايف إنك تستحقي أكتر... وهو هيعينّي رئيس قطاع التمويل في ألسهم الفضى. كلنا بنستفيد، يا هناء. دي مش خيانة، دي شراكة." تجمّدت الكلمات في حلقها. أدركت أن التنازل الذي ظنّته اختيارًا مؤقتًا صار نظامًا مستقرًا، وأن رأفت لم يخذلها فقط، بل بارك سقوطها باسم العقل. مرت السنوات، ومراد يعلّمها كيف تُساير وتفاوض وتُخفي ما تشعر به. وحين اقترب موعد ترشيحها لمقعد مجلس الإدارة، أخبرها مراد ببرودٍ معتاد أن التأييد الأخير يحتاج «جهدًا شخصيًا» لا تُكتب تفاصيله. نظرت إلى رأفت. لم يقل شيئًا، فقط أومأ برأسه. كانت تلك لحظة الانعكاس الكامل: لم تعد تعرف إن كانت تصعد نحو القمة، أم تهوي من قمةٍ أخرى. وفي صباح اليوم التالي، كانت بطاقة عضويتها في مجلس الإدارة تنتظرها على المكتب. لكنها لم تحتفل. اكتفت بنظرة طويلة إلى اسمها المطبوع بالذهبي، كما لو كان شاهدًا على قبرٍ تعرف صاحبته جيدًا.

الفصل الرابع: عقد النهاية

في المساء، عادت إلى شقتها المعزولة في الطابق العشرين. جلست أمام النافذة الزجاجية، تشاهد المدينة وهي تتلألأ. فتحت درج مكتبها وأخرجت ورقة قديمة — ملاحظة كتبتها في أول يوم جامعي: "الاستقلال ثمنه التمرد الدائم." قرأتها، ثم ابتسمت ابتسامة قصيرة متعبة، وهمست: "كل العقود تبدأ بتوقيع... إلا عقد الحرية. يبدأ بالتنازل." نظرت حولها إلى الصمت الفخم الذي يملأ المكان. لم يكن فراغًا... بل امتلاءً كاذبًا بالسلطة. ولأول مرة منذ زمن، فهمت أن المأساة ليست أن نُقيد، بل أن نصبح نحن القيد.

نبذة عن الكاتب

محسن عباس — كاتب مصري يهتم بالأدب الفلسفي والرمزي، ويبحث في العلاقة بين الإنسان والسلطة، وبين الطموح والحرية.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.