اقاصيص
الجزء الثانى
======
📖 رمان بائعة الخضار
✍️ بقلم: محسن عباس
🔹 تقديم
في «رمان بائعة الخضار» يمضي محسن عباس بخطى شاعرٍ يرى بالعاطفة أكثر مما يرى بالعين.
ينسج حكايةً عن الشوق والمراقبة والتحوّل، حيث يتحول الشباك من نافذةٍ عادية إلى مرآةٍ للروح، وحيث تُغسل الخطيئة بالماء لا بالندم.
في هذا النصّ يتقاطع الجسد بالرمز، والسوق بالحمّام، والعين بالخيال، حتى يصير “الرمان” إعلان ميلادٍ جديدٍ لأنوثةٍ تكتشف ذاتها، ولرجلٍ يكتشف عجزه عن مقاومة الحضور الأنثوي حين يتجلى في أقصى صفائه.
هنا لا يكتب عباس عن الغواية بقدر ما يكتب عن التحوّل الإنساني تحت ضوء الرغبة، حيث لا شيء بريئًا تمامًا، ولا شيء مدنسًا تمامًا.
النصّ:
وقف أمام شباكه الخشبي المغلق، يترقّب كالعادة أن يراها، دون أن تراه.
كانت تحسّ به دائمًا، فتترك ضلفة شباكها مواربة،
ومن تلك الفتحة الصغيرة كان يرى المرأة التي صارت مرآته.
كانت تشبعه حين ترضى عنه بنظرةٍ عابرة،
لكنها منذ علمت أنه يغازل بائعة الخضار اليافعة،
أغلقت الشباك... وأغلقت معه قلبها.
فتح شباكه الخشبي ليدخل نورٌ جديد إلى الغرفة،
كأنه يهيّئ المكان لاستقبال الظلام القادم من داخله.
في السوق القديم، كانت بائعة الخضار اليافعة تمرّ كل صباح أمام بيته.
وحين رأت شباكه مفتوحًا على مصراعيه، وعيناه تتبعانها كعادته،
هرعت إلى الحمّام البلدي، حمّام السوق العتيق الذي تفوح منه رائحة الصابون البلدي والدلكة.
دخلت المغطس، واستسلمت للماء الساخن،
وأخذت “المعلّمة” تدلّك جسدها بدهشةٍ من حضورها المفاجئ.
سألتها مبتسمة:
ـ إيه اللي جابك النهارده يا بنتي؟
فردّت بخجلٍ صادق:
ـ هو السبب.
ضحكت المعلّمة وقالت:
ـ يبقى لازم تخرجي جديدة زيه.
ألبستها ثوبًا أنيقًا، وأحرقت القديم بيدها،
ثم قالت:
ـ من النهارده هتبيعي فاكهة كمان… رمان وتفاح وموز.
خرجت البائعة من الحمّام، مستقيمة القوام، يلمع جسدها بندى الثقة،
ووقفت تنادي بصوتٍ صافٍ يهزّ السوق:
ـ الرمان يا حلوين... الرمان بخيره!
سمعها من شباكه، فخرج متهلل الوجه،
وعيناه تشعّان بدهشة طفلٍ رأى المعجزة،
وهمس لنفسه:
رمان بائعة الخضار... يا لسحر البداية.
------------------------------------------------------
📖 ظلّ ابتسامة
✍️ بقلم: محسن عباس
🔹 تقديم
في نصّه «ظلّ ابتسامة»، يفتح محسن عباس نافذةً على العزلة الأنثوية حين تتحول الغرفة إلى مسرحٍ للذاكرة، والخيال إلى عودةٍ مؤقتةٍ للمحبّ الغائب.
لغة النصّ تمشي على خيطٍ دقيقٍ بين الحلم والجسد، بين الطمأنينة والرغبة، حتى تبلغ ذروتها في لحظةٍ واهيةٍ من الامتلاء الوهمي.
هنا لا يكتب الكاتب عن الحبّ فحسب، بل عن وهم الطمأنينة الذي يخلّفه الغياب، عن تلك الابتسامة التي لم تكتمل معناها لأنها خُلقت من نصف حلم ونصف وجع.
إنها كتابةٌ ناعمةٌ في ظاهرها، عميقةٌ في وجعها، تُذكّرنا بأن بعض اللقاءات لا تحدث إلا في خيالٍ صادقٍ يُصرّ على أن يرى ما لم يعد موجودًا.
بعد أن أنهت أعمال المنزل، دخلت غرفتها وأغلقت الباب بإحكام.
خلعت عنها ما أثقلته رطوبة الماء وعرق النهار، كمن تخلّص أخيرًا من عبءٍ لا يُرى، ثم اقتربت من الشيش المغلق كمن يتهيأ لاعترافٍ مؤجل.
وحين فتحته، شهقت بصوتٍ مكتوم: أخيرًا رجعت!
كان في الجهة المقابلة، كما اعتادت أن تراه كل مساء، يحتسي قهوته ويدخن سيجارته في صمتٍ مهيب، كأنه لا يعلم أن هناك من تراقبه بعينٍ ترتجف شوقًا.
تأملته من بعيد، كما تفعل كل مرة، لكن هذه المرة كان في ملامحه شيءٌ من الغياب القديم، شيء يشبه الحنين حين يشيخ ولا يفقد حرارته.
بدت عينها كأنها تلتهمه بولهٍ صامت، حتى ثملت نظراتها، وأغمضت جفنيها فرأت طيفه يقترب منها، يضمها برفقٍ يشبه الحلم، ويربت على كتفيها كما كان يفعل حين كانت الدنيا تتّسع لهما معًا.
ألقت بجسدها على السرير، شهقت شهقةً طويلة كمن يخرج من غرقٍ قديم،
ومضى دفء النشوة الوهمية في عروقها، كأن جسدها استجاب لما لم تبلغه اليد.
همست في نصف وعيها، بصوتٍ بالكاد خرج من بين شفتيها: طمّنتني عليك...
ثم نامت قريرة العين، وعلى شفتيها ظلّ ابتسامةٍ لم يكتمل معناها،
كأنها وُلدت في منتصف الحلم، لتبقى هناك، بين الوعي والغياب،
حيث لا أحد يعود فعلًا، ولا أحد يرحل تمامًا.
-----------------
كوبرى مولانا
========
كان يقف وحيدًا، ينظر إلى الأفق سارحًا في الملكوت بخياله،
وإذ بصوتٍ يأتيه من البعيد:
لا تحزن يا…
وقبل أن ينطق الاسم، صاح مذهولًا:
ـ من أنتِ؟ ومن أين لكِ أن تعرفي حزني وألمي؟
كيف لي ألا أحزن؟
فأجاب الصوت برقةٍ عميقة:
ـ كل حزنٍ مرَّ بك، لم يكن سوى تأجيلٍ لسعادةٍ قادمة، حتى لا تضيع هباءً.
قال بصوتٍ مبحوحٍ من قلبٍ مثخنٍ بالجراح:
ـ دعيني وشأني.
فهمست:
ـ أنتَ شأني... وكلي.
صمت طويلًا، وظنّ أنه مسّه الجنون.
ثم أحسَّ بيدٍ تربت على كتفه، فرفع نظره ببطءٍ ممزوجٍ برهبة،
فرأى حوريةً من نورٍ البحر، تشعّ منها أنوارٌ هادئةٌ حانية.
اقتربت منه وهمست في أذنه:
ـ امسح أحزانك فيَّ، ولا تنظر خلفك.
فأمسك بيدها، وصعدا معًا إلى العُلا.
حين همّت شمس المغيب على كوبري مولانا،
كانت نسمات الهواء تداعب شعر حياة،
ومالك ممسكٌ بيدها.
همّ أن يقول شيئًا،
فوضعت أناملها الناعمة على فمه وقالت:
ـ أنا مش زعلانة منك...
أنا زعلانة علشان بعيد عنك،
علشان محرومة منك،
علشان مش قادرة ألمسك،
علشان إنت مش ملكي،
وصعب تكون ملكي.
ثم أضافت بصوتٍ يختنق بالعشق:
ـ مع إنّي أحق إنسانة بيك،
لأنك جوايا... ومعايا من أول ما اتولدت ليومنا ده.
إنت روحي... حياتي.
ولما بقولك إنت الحياة،
مش كلمة... دي الحقيقة.
حياة يعني مالك...
من غيرك أموت.
وأنا حاسة إني فعلًا بموت.
أخذ مالك كفّ يديها، ووضع بين أصابعها قبلاتٍ حانية،
بللت دموعه راحة يديها.
فهمست:
ـ إلا دموعك... إنت.
فصاح بصوتٍ جهوريٍّ يشبه النذر:
ـ هي لكِ... ولكِ فقط!
ومن بعد أول لقاءٍ على كوبري مولانا،
انطلق حياة ومالك نحو الأفق،
ينثران أريج الصدق...
قبل عبير السعادة.


0 التعليقات