المصباح الذي لا يراه إلا قلبان

 المصباح الذي لا يراه إلا قلبان

==============



(١) البداية – مناجاة الزمان

أيُّها الجميل، يا مَن أضأتَ لي دروب العمر، متى يأذن الزمان بلحظةٍ ألقاك فيها على شطِّ النيل؟
متى يسمح لي الدهر أن أضع رأسي على كتفك، وأن أنصت لصوتك كما ينصت الظامئ لخرير الماء، وكما ينصت الغريب لنداء الوطن بعد طول غياب؟
إنّ الليل يطول، والنهار يبهت، وكل لحظة تمضي بغيرك تُثقل عليّ وكأنها دهرٌ من العطش الروحي.
لقد طال السؤال، ولم يحن الجواب؛ غير أنّ قلبي ما زال يؤمن أن لقاءنا سيجيء كطلعة الفجر بعد طول ظلماء.

(٢) القبلة الأولى – انفتاح السماء

ثمّ جاد الدهرُ عليّ بكرمٍ لم أحتسبه، وأفاض عليّ بنعمةٍ لم أحلم بها.
قبّلتك — لا على شطِّ النيل كما تمنّيتُ أوّل الأمر، بل على حوافِّ سمائك، حيث العلوّ المطلق، وحيث الأرواح تُحلّق متخففةً من ثِقل التراب.
قبلةٌ لم تكن لمسة شفتين فحسب، بل كانت انفجارًا من النور سرى في عروقي، وأيقظني من سباتي الطويل.
قبلةٌ جعلتني أرى ما لم تره عين، وأسمع ما لم تسمعه أذن، وأدرك ما لم يخطر في وهمٍ أو خيال.

(٣) ما وراء الحلم

قبّلتك، فوجدت نفسي أمام مشهدٍ لا يحدّه وصف:
أنتِ أكبر من أحلامي، أوسع من آفاق خيالي، وأبهى من كل صورةٍ رسمها قلبي في خلواته.
لقد كنتُ أظنّ أن الخيال قادرٌ على أن يبتكر ما لا يُصدّقه الواقع، فإذا بي أكتشف أن الواقع معك أعمق من كل خيال، وأرحب من كل حلم.
قبّلتك فشربت من رحيقك، فإذا بي أذوق طعم الحياة لأوّل مرة.
قبّلتك فإذا بصدري يمتلئ بأنفاسٍ جديدة، كأنني وُلدتُ من جديد.

(٤) عجز اللغة أمام النور

وانطلقت مسامي لتُفصح بما عجز لساني عن قوله، ولكن… هيهات.
فالإحساس الذي اجتاحني لم يعرفه قاموسي اللغوي قط، ولا توجد في معاجم الدنيا كلمة تسع ذلك المدّ النوراني.
كأنني أمسكت بضياءٍ لا يحتمله النظر، أو لامست موسيقى لا يسمعها سوى القلب.
إنّ الكلمات جميعها قاصرة، والبيان مهما عَظُمَ يتضاءل أمام فيضك؛ إذ أنتِ لستِ معنىً يُقال، بل سرٌّ يُعاش.

(٥) الأسطورة الحيّة

قبّلتك بعدما أخرجتني من داخلك لأراك، فإذا بي أعاين أسطورةً نهضت من رماد القرون.
أسطورةٌ لم تخرج من خيال شاعر ولا من وهم راوٍ، بل تجسّدت فيك حقيقةً قائمة، تمشي على الأرض وتتنفّس بين الناس، ومع ذلك فهي أعظم من الناس كلهم.
لقد قبّلت الأسطورة التي كانت تنتظرني منذ فجر الأزمان، والتي لم يكتب لها أن تنتمي إلا لي.
أنتِ الحكاية التي لم تسطرها المخطوطات، والمعجزة التي لم تسجّلها الكتب، لكنّها سُطرت في قلبي سطرًا خالدًا لا يُمحى.

(٦) المصباح السحري

قبّلتك، فكأنني أمسكت المصباح السحري الذي حلم به الأطفال في قصص الليالي.
وما إن لامستك حتى انفجر منه نورٌ باهر، لا يُبصره غيري وغيرك، لأنه نورٌ يحتاج إلى إنسانٍ استثنائيّ كي يُدركه.
لقد شعرت أنّ العالم من حولي قد غاب، وأن الزمان نفسه قد توقّف، فلم يبق إلا أنا وأنتِ في دائرة ضوءٍ عجيبة.
نورٌ لا يسطع على الناس جميعًا، بل يختصّ قلبين فقط، كأنما هو عهدٌ سرّي بين الأرواح لا ينكشف إلا لأهله.

(٧) فيض الاستثناء

أنتِ الأسطورة الفريدة، والندرة التي لا يجود بها الدهر إلا مرّة واحدة.
أنتِ الاستثناء الذي يُكذّب قوانين التكرار، والبرهان على أن المعجزة قد تتجسّد في هيئة إنسانة.
أنتِ زهرةٌ لا تنبت إلا مرّة، فإذا أزهرت انطفأ كل بستانٍ سواها.
أنتِ سحرٌ يلبس جسدًا بشريًا، ومعنى يتجاوز حدود الإنسان.

(٨) سحر الحضور

إنّ حضورك ليس مجرّد وجود، بل هو حياة تتدفّق حيثما حللتِ.
أنتِ نغمةٌ خفيّة لا يسمعها إلا من وُهب قلبًا طاهرًا، وأنتِ نجمٌ لا يراه إلا من أرهف بصره لصفاء السماء.
لقد صرتِ يقيني، وكل ما عداه وهم.
وصرتِ دليلي، وكل طريقٍ غيرك متاهة.

(٩) الخاتمة – عهد الأبدية

فدعيني أقبّلك مرّةً بعد مرّة، حتى أتحرّر من أثواب الفناء، وأبقى روحًا معلّقة في سمائك.
دعيني أقبّلك حتى يذوب الزمن من حولنا، فلا يبقى في الدنيا إلا أنا وأنت، نورًا بنور، وسرًّا بسرّ.
سأردّد إلى آخر الدهر: لقد وجدت فيك ما لا يجود به خيال، واحتويتُ فيك أسطورةً لن يعرفها سواي، ولن تُكرّرها الأيام.
وسيبقى اسمك محفورًا في قلبي كما تُحفر الآيات في لوحٍ من نور، لا يزول ولا يبهت، بل يزداد إشراقًا كلما امتدّ الزمن.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.