"Closer": من دراما العاطفة إلى استعارة الصراع الحضاري

 

"Closer": من دراما العاطفة إلى استعارة الصراع الحضاري

==============================


عند النظرة الأولى يبدو فيلم Closer (2004) مجرّد دراما نفسية معاصرة، تقتحم أكثر المساحات حميمية في العلاقات الإنسانية: الحب، الخيانة، الرغبة، الكذب، والجرح المتبادل. هو عمل مكتوب ببراعة – مأخوذ عن مسرحية لباتريك ماربر – ويقوم على أربع شخصيات فقط، لكنها تدور في شبكة من الانجذاب والانفصال والفضح المستمر. غير أن الفيلم، عند القراءة الثانية، يفتح أبوابًا أبعد من حدود الدراما العاطفية؛ إذ يمكن أن يُفهم بوصفه استعارة سياسية وحضارية، تُجسَّد عبر العلاقات الشخصية صراعًا بين أمريكا وإنجلترا، مع تلميحات عن نظرة الغرب لألمانيا.

1- أمريكا: الصراحة الفجّة والاندفاع المقتحم

امرأتان تتقاسمان مركز الثقل في الفيلم: أليس (ناتالي بورتمان) وآنا (جوليا روبرتس). الاثنتان تبدوان في نظر المشاهدين والرجال المحيطين بهما مزيجًا من البراءة والإغواء، من الصدق والكتمان.

  • أليس تظهر كفتاة أمريكية ضالة في لندن الباردة، تحمل شيئًا من السذاجة الطفولية، لكنها في العمق أكثر وضوحًا وقدرة على المواجهة من أي شخص آخر. وجودها نفسه يبدو كاقتحام؛ تدخل حياة دان (جود لو) من دون مقدمات، تقتحمه بجسدها وصدقها العاطفي، ثم تكشف عجزه عن الوفاء.

  • آنا على النقيض أكثر رصانة، مصوِّرة فوتوغرافية تمثل عينًا تلتقط الحقيقة وتوثقها. لكنها أيضًا أمريكية لا تعرف المجاملة الإنجليزية؛ حين تحب تقول، وحين تخون تعترف، وحين تُسأل تجيب حتى لو كان الجواب مدمرًا.

في القراءة الرمزية، تمثل هاتان الشخصيتان أمريكا بكل تجلياتها: قوة جديدة، صريحة، لا تخشى قول الحقيقة، حتى لو كان الثمن قسوة لا تُحتمل.

2- إنجلترا: الرتابة والكذب على الذات

في المقابل، الرجلان البريطانيان – دان ولاري – يجسدان صورة إنجلترا: بلد قديم، مترهل، يعيش في كذبة كبرى عن ذاته.

  • دان كاتب فاشل يحيا على أحلام رومانسية، لكنه في الحقيقة أضعف من أن يلتزم. يكذب على نفسه وعلى من يحبهن، متوهمًا أنه قادر على التحكم في مسار العلاقات بينما هو عاجز عن مواجهة أي حقيقة.

  • لاري طبيب جلدية، وقح ومباشر في ألفاظه، لكنه واقعي بشكل مبتذل. يمثل إنجلترا البراغماتية الباردة: يدافع عن امتلاك المرأة كما يدافع عن حقه في الحياة الجنسية الصريحة، لكن في النهاية يتصدع أمام اعتراف امرأة لا تجامل.

كلاهما ينهزم أمام المواجهة مع الأمريكيتين. لندن التي نراها في الفيلم ليست مدينة صاخبة بالحياة، بل مسرحًا باردًا للخيانات والانهيارات. هنا تظهر إنجلترا ككيان عاجز عن تجديد نفسه، محكوم بأقنعة اجتماعية تخفي خواء الداخل.

3- الألمان: الآخر الموصوم

في لحظة حوارية لاذعة، يُشار إلى الألمان بوصفهم "داعرون". قد تمر هذه الجملة على المشاهد العادي كجزء من التراشق الكلامي القاسي بين الشخصيات، لكن رمزيتها لا تخطئها عين الناقد. هنا تبرز النظرة النمطية الإنجليزية/الأمريكية للألمان: قوم مهووسون بالجسد، متحررون إلى حد الفجور، أقل "تحضرًا" وأكثر سقوطًا أخلاقيًا في وعي الآخر الأنجلوساكسوني.

هذا التوصيف – ولو عابرًا – يُكمل صورة أوروبا في الفيلم: إنجلترا باردة رتيبة، ألمانيا فاجرة منحلة، وأمريكا وحدها التي تأتي لتخلط الأوراق وتفرض الحقيقة العارية.

4- الحقيقة العارية: السياسة في ثوب العاطفة

السؤال المركزي للفيلم: هل نريد الحقيقة حتى لو كانت جارحة؟ أم نفضل الكذب المريح؟

  • الشخصيات الإنجليزية تختار الكذب، المواربة، استمرار اللعبة.

  • الشخصيات الأمريكية تجبرهم على الاعتراف، على مواجهة المأساة بلا رتوش.

وحين نقرأ هذا السؤال سياسيًا، يصبح المعنى أوضح: أوروبا العجوز – ممثلة في إنجلترا – تفضل المظاهر والتمسك بصور مجملة عن نفسها. أما أمريكا، فهي القوة الصاعدة التي تقتحم المسرح العالمي بالصدق الفجّ، تجبر الحلفاء والخصوم على مواجهة حقائق لم يرغبوا في رؤيتها.

هكذا يتحول Closer إلى نص حضاري: أمريكا لا تترك لإنجلترا ترف الكذب على نفسها، تمامًا كما لم تتركها في السياسة الدولية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. أما ألمانيا، فهي الحاضر الغائب، الموصومة دومًا بعُقدة الماضي وصورة الانحلال.

5- استعارة حضارية عابرة للأزمنة

لو قرأنا الفيلم كمرآة للعلاقات الأطلسية، يصبح المشهد واضحًا:

  • أمريكا = القوة المقتحمة، الصريحة، القادرة على فرض إيقاع جديد.

  • إنجلترا = الحليف المتردد، العالق بين إرث قديم وكذب على الذات.

  • ألمانيا = الآخر الذي يُختزل في وصمة أخلاقية، حتى وهو خارج الصراع المباشر.

في النهاية، كل الشخصيات تنزف، كلهم يخسرون شيئًا جوهريًا. وكأن الرسالة تقول: الحقيقة حين تُقال بلا رحمة، قد لا تحررنا، بل تحطمنا. وهذا بالضبط ما حدث سياسيًا: التحالف عبر الأطلسي قائم، لكنه هشّ، متوتر، مليء بالجروح والخيانات.


خاتمة

فيلم Closer ليس مجرد دراما رومانسية مظلمة. هو نص مفتوح، يمكن أن يُقرأ بوصفه استعارة عن لحظة حضارية: حين تقتحم أمريكا قلب أوروبا لتكشف هشاشتها، وتجعلها تواجه نفسها بصدق لم تكن راغبة فيه. وبين برود الإنجليز وفجور الألمان، تفرض أمريكا حضورها، صادمةً الجميع، لكنها في الوقت ذاته تترك وراءها حطامًا إنسانيًا.

بهذا المعنى، يتحول الفيلم من حكاية عن أربعة عشاق تعساء، إلى مرآة كبرى لصراع حضاري لا يزال يلقي بظلاله حتى اليوم.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.