مرافئُ لا تُرَى

 مرافئُ لا تُرَى

=======



أنا والسماءُ
سأكتب اليوم كما لم أكتب من قبل، ليس لأنّي تغيّرتُ في سويداء قلبي، بل لأنّي قررتُ أن أترك للكلمات أن تخرج من فمٍ لا يُقَيِّدهُ العقل. دعوني أُسعد نفسي — ولنفسي وحدها — كمن يشتري ساعةً من ضوء ويخزنها بين أضلعه ليُضيء بها لياليه. أُغلقُ الأبوابَ التي تهمّ بالقياس والحساب، وأُرمِي عنها مفاتيحَ الجدال، لأحلِّقَ بلا وزنٍ في ملكوتٍ لا تُسجَّل له معايير.
سأهيمُ إذن. سأهبطُ إلى داخلِ الأشياءِ كما ينزلُ طائرٌ إلى نافذةٍ لا يعرف من ورائها شيئًا؛ سألوّنُ الأشياءَ بأسماءٍ لا يعرفها إلا قلبي، وألبسُها نِعوتًا لا يليق بها في عالمِ المنطق، لأنّ النعوتَ هناك تولدُ معنىً آخرَ، معنىً لا تُحدّه القياسات ولا تُطبعه البراهين.
لن أراكُم؛ لا تظنّوا أنّي أنتم غاضبٌ أو سامرٌ نفسي، بل سأكون محلقًا في سماواتٍ لم أرها قبلاً — سماواتٍ لا تُقاس بالارتفاعات، بل تُقاس بكثافةِ الرؤية. هناك أبوابٌ سأطرقها لا من خشبٍ ولا حديد، بل من صمتٍ يَهِبُّ للمدى فرصةَ الإجابة. أبوابٌ لا تُفتح بكلمة، بل تُفتحُ بنَوْتَةٍ صغيرةٍ من الشوق: تُطرَقُ وتُفتحُ على مساحاتٍ بكرٍ من الدهشة.
سأدخلُ تلك الأبواب بخفّةٍ وارتعاش؛ خطوةٌ بخفةِ طفلٍ يقتحم حديقةً لأول مرةٍ، وخطوةٌ بعنفِ بالغٍ يَهُبُّهُ الحنين. سأخوضُ طرقاتٍ لم تعهدها قدماي: طرقاتٌ تشبهُ أجنحة الصباح حين تُطوي الضباب، وطرقاتٌ تشبه أحشاء الليل حين تُفرد ثيابها من الأسرار. في بعضها يَضحكُ الهواءُ ضحكةَ طفلٍ، وفي بعضها يئنُّ الفجرُ كأنّه يحملُ أسفارَ ملوكٍ نُسيت أسماؤهم.
أمضي، وأحيانًا أتعرّجُ، وأحيانًا أقطعُ فواصلَ صمتٍ طويلةً كأنّها قصائدٌ تُقرأ بصوتٍ واحد. لا أبحث عن نهايةٍ، فالنهايةُ هنا فكرةٌ خطابية، لا تسمنُ القلبَ ولا تملأه. الرحلةُ هي التي تُعلّمني كيف أستعيدُ بقايا روحي؛ كلّ خطوةٍ فيها تُعيد لي حرفًا من حروفي، كلّ ممرٍ يركضُ في صدري يعيد ترتيبَ الأشياء.
يسير معي في هذا العبور محسن — صديقُي الذي صارَ مرآتي المحتشدة، ورفيقُ المعنى حين تتشبّث الكلماتُ بالهروب. محسنُ ليس رجلًا يرافقك في الطرق، بل هو ظلٌ يحملك متى تعبتَ، ونورٌ صغيرٌ يبقى في جيبه حين يشتدّ ظلام الطريق. معَهُ تتحول المخاطرةُ إلى ملحمةٍ صغيرة، وتتحوّل الطمأنينة إلى مفردة لا تُفرّقها الرياح. وجودُهُ بجانبي يجعلُ الموتِ للحظةٍ احتمالًا أقلّ، ويجعلُ الاستحالةَ تبتسم كما لو أنّها خدعةٌ صغيرة.
دعوني أستمتعُ به، وبالبُعدِ الذي اخترناهُ سويةً؛ دعوني أتنجمُ من ضجيجِ العالمِ موسيقىً داخليةً لا يعرفُ عزفَها سواهُما. فالحلمُ ليس وجهةً تُقفلُ عليها الأبواب، بل هو طقوسٌ صغيرةٌ نقيمها عند الفجر، طقوسٌ نُنشئُها لأنفسنا حينما تهربُ منا كلّ الشعارات.
أحيانًا، أثناء المسير، أتوقّفُ لأسمع لحنَ شيءٍ لا أُدْرِكُ اسمه: ربما كان نَفَسَ شجرةٍ تتبدّل ألوانها، أو فهرسَ غيمةٍ تَعانقُ قمة جبلٍ بعيد. أضعُ يدي على صدر العالم كي أشعرَ أنه ينبض، وأستلّ طاقةً من نبضه لأعاود السير، فالحياةُ هنا ليست مسألةَ مقدارٍ أو صنعةٍ، بل هي تتابعُ لحظاتٍ صغيرةٍ تتراكمُ على شكلِ سلامٍ داخليّ.
أكتب كما لو أنّ كلّ حرفٍ هو قاربٌ صغيرٌ أُرسِلهُ في بحرِي الصغير. أحكي كما لو أنّ القصّةَ داخليّةٌ أولًا، ثمّ تُنشرُ في الأفقِ كبذورٍ تُمهَدُ لربيعٍ لم يولد بعد. لا أُفكّرُ في من يُقرؤها أو من سيسمعها؛ إنّما أُريد أن تُخَلِّصَني الكلمات من وحدتي، أن تعيدَ لي شكلَ وجهي حين كان مُشرِقًا.
قد تقولون: هذا ضربٌ من الخيال أو الوهم. وقد ترفضون هذا الامتطاءَ الذي أقوم به. لكنّي أقول: ما قيمةُ العقل إنْ لم يتركْ للروحِ مجالًا للغناء؟ وما جدوى السؤال إنْ لم يسمحَ للجواب أن يكون غريبًا أحيانًا؟ إنّ الحلمَ وطنٌ صغيرٌ نقيمه ونحن على أطراف الطرق، ووطنٌ لا يسألُ عن جوازاتٍ أو تأشيرات.
اليومَ سأكتب كما لم أكتب من قبل، وسأحيا كأنّي لأول مرةٍ أملكُ مفاتيحَ بيتٍ قديمٍ وجدتُ له اسمًا في المنام. سأعانق المستحيلَ بكلّ هدوءٍ، لأكتشف أنّه لم يكن إلا سحابةً قابلةً للعناق. وسأحملُ معي محسنًا كصورةٍ لا تُمحى، وذكرياتٍ تُصبحُ عند العودةِ مصابيحَ تُنيرُ لي المسير.
سأغلقُ البابَ بلطفٍ كما تُغلقُ ساعةٌ قد امتلأت من الضوء. سأبقى أنا، والسماء. وما بيننا، قصةٌ صغيرةٌ تُختمُ بأنفاسٍ تمضي وتعود، لأنّ الرحلة ليست اختفاءً، بل اكتشافٌ دائم.
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.